برزت التطورات التي تشهدها النيجر كمظهر من مظاهر صراع القوة والنفوذ في الساحل وجنوب الصحراء، يفوق الحدث البارز المتمثل في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم. وتتسع مخاوف باريس إلى جانب أطراف غربية من مآلات الأحداث، على غرار تحذير الولاياتالمتحدة المجلس العسكري في النيجر من أي شراكة مع روسيا، لما يمثله ذلك من تهديد لمصالحها في الإقليم. ولكن تبقى فرنسا الدولة الغربية المعنيّة أكثر بما ستؤول إليه الأحداث في النيجر بسبب نفوذها السياسي والاقتصادي هناك، خصوصا بعد الانحسار في مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى وفي غرب إفريقيا. وترى باريس في مجريات الأحداث في النيجر عاملا تنطبق عليه نظرية الدومينو، فتأثير الدومينو بالإنجليزية هو عبارة عن تفاعل تسلسلي يحدث عندما يسبب تغيير صغير تغييرا مماثلا بجواره والذي بدوره سيحدث تغييرا مماثلا وهكذا دواليك في تسلسل خطي. ويعتبر ذلك سلسلة من الحوادث، على أساس أن حدوث عامل قد يؤدي إلى حدوث سلسلة من الأحداث المتتالية السلبية ويؤدي اختلال أولي إلى وقوع متسلسل لاختلالات أخرى تباعا. ولا تمثل التغيرات التي تشهدها النيجر حدثا عاديا بالنسبة لفرنسا، إذ كان الرئيس محمد بازوم حليفا قويا لها وشريكا اقتصاديا قويا، ويعد من بين آخر القادة الموالين لها في منطقة الساحل الإفريقي. وتمثل النيجر حلقة مهمة بالنسبة لباريس من الناحية الاقتصادية والإستراتيجية والأمنية. فإلى جانب تواجدها العسكري المهم، خاصة بعد الانسحاب من ماليوبوركينافاسو، فإن النيجر تمثل نقطة ارتكاز لاستغلال اليورانيوم بالخصوص. وحتى وإن تظل مجموعة "أورانو" الفرنسية (أريفا سابقا) نشطة في مجال استخراج واستغلال اليورانيوم شماليالنيجر، إلا أن المخاوف تتزايد بشأن ما ستؤول إليه الأحداث ومصير نشاط المجموعة الفرنسية ومصالحها، إلى حد تشكيل خلية أزمة. فالمجموعة الفرنسية تتواجد منذ قرابة 50 سنة بالنيجر على مستوى ثلاثة مناجم لليورانيوم، أهمها أرليت، علما أن يورانيوم النيجر يمثل نحو 20 في المائة إلى 25 في المائة من واردات باريس من المادة الحيوية لفائدة محطاتها النووية. وبرز أول مخاوف الشركة الفرنسية في 2010، مع سحبها كافة الرعايا الفرنسيين العاملين بمنجم "أرليت" بعد اختطاف سبعة من الرعايا الفرنسيين، علما أن أرليت مدينة صناعية تقع بمنطقة أغاديس شمالي دولة النيجر، بين الصحراء الكبرى وجبال العير، وتبعد 200 كلم إلى جنوب الحدود الجزائرية مع النيجر وسكانها يقدرون بنحو 80 ألف نسمة وبها جالية فرنسية كبيرة أنشئت لأجلها بنية تحتية شاملة تتضمن مطارا دوليا واشتهرت بتعدد مناجم استخراج مادة اليورانيوم التي تستغلها الحكومة الفرنسية لإمداد المفاعلات النووية التي تعتمد عليها فرنسا لإنتاج الطاقة. وقد أنشئ طريق حديث يتجه جنوبا لنقل شحنات اليورانيوم الخام إلى ميناء كوتونو بدولة بنين للتصدير، إلا أنه تجاوز مدنا عديدة. ويشكل اليورانيوم نحو 90% من قيمة صادرات النيجر. وتطرح باريس احتمال إقدام السلطات في النيجر على تأميم المناجم، لاسيما أرليت، فضلا عن إمكانية الاستعانة بروسيا. ويشكل فقدان "أورانو" مصالحها في مناجم اليورانيوم ضربة قاسية تعيد إلى الأذهان فقدان شركات فرنسا، على غرار "توتال" مصالحها في النيجر. وباعتبار النيجر الحليف الوحيد الباقي لفرنسا في المنطقة، فإنها أثارت قلقا كبيرا أخذ بالتشكل منذ بداية انسحاب باريس التدريجي من دول الساحل، وهنا تنظر باريس إلى ما قد يحدثه الفراغ السياسي على مصالحها الاقتصادية والعسكرية، فبعد أن أُجبرت على الانسحاب من مالي إثر انهيار العلاقات بينها والمجلس العسكري هناك اتجهت إلى النيجر. ويعد فقدان مصالح باريس في النيجر ضربة موجعة. ففي نهاية 2021 وبداية 2022، تم الإعلان عن استحواذ شركة ستار أويل الموريتانية على شبكة كاملة من محطات الخدمة التابعة للفرع النيجري لشركة "توتال" الفرنسية.
دولة رهينة عمق إستراتيجي لباريس عكست الزيارتان اللتان قام بهما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى نيامي سنتي 2017 و2019 أهمية هذه الدولة الحبيسة التي تمتلك عمقا استراتيجيا وحيويا، فهي تتقاسم حدودا مع دول (الجزائر، ليبيا، التشاد، مالي، بوركينافاسو، البنين، نيجيريا، الكامرون). وتعد النيجر الزبون 17 لفرنسا في إفريقيا جنوب الصحراء والممون رقم 16، كما أن النيجر ضمن الدول المعتمدة للفرنك الإفريقي، الذي وصف بمثابة "عملة استعمارية". وتحتل النيجر موقعا خاصا في إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي منذ أن بدأت فرنسا عام 1971 عبر شركة "أريفا" أورانو حاليا الاستحواذ على استخراج يورانيوم النيجر الذي يمد فرنسا بنحو 30% من احتياجاتها من الطاقة النووية والتي تساهم بدورها في قرابة 70% من الطاقة الكهربائية الفرنسية، علما أن النيجر تحتل وفق تصنيف سنة 2022 المرتبة السابعة عالميا من حيث أهم وأكبر منتجي اليورانيوم عالميا. ورغم العلاقة المختلة بين باريس ونيامي إلا أن النيجر المصنفة من الدول الأفقر والأقل نموا وفق معايير الأممالمتحدة تساهم عبر ثرواتها المستغلة في تمويل جزء من مشاريع فرنسا من الطاقة النووية وتزويدها باحتياجاتها من الطاقة الكهربائية.
أريفا وقضية 'أورامين" بناميبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب إفريقيا وبينما كانت شركة أريفا تعمل في دولة النيجر عن طريق شركة تابعة لها تسمى أريفا النيجر التي تقوم بتنسيق عمل الشركات الفرعية التي تدير المناجم الثلاثة، وهي سومايير وكوميناك وإيمورارن مع الشركة الأم، واجهت المجموعة قضية بدأت خيوطها في 2007 وأثارت ضجة واسعة، دخلت إثرها أروقة المحاكم لمدة امتدت نحو ثماني سنوات، وتمثلت فصولها في شراء الشركة الفرنسية في سياق سعيها تنويع محافظها حصص الشركة الكندية "أورانيم" في 2007، مقابل قرابة 1.8 مليار أورو أو 2.5 مليار دولار. وكانت الشركة الكندية تحوز ثلاثة مناجم لليورانيوم في كل من ناميبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب إفريقيا، وبدأت أول شرارات القضية مع إشعار مجلس المحاسبة في 2014، وفتح تحقيقين قضائيين في 2015، يتعلق أحدهما بشبهة الاحتيال والفساد أثناء الاستحواذ على شركة "أورانيم" والآخر على عمليات التموين التي قيدتها أريفا، حيث اضطرت الشركة الفرنسية لتقييد في حساباتها في 2010 و2011 تموينا يقارب 1.9 مليار أورو لمراعاة انخفاض قيمة أصول الشركة بعد انخفاض سعر اليورانيوم واحتياطياته التقديرية. واشتبه القضاة في أن مسؤولي المجموعة الفرنسية قدموا حسابات غير دقيقة لإخفاء انهيار قيمة اليورانيم وتسديد ثمن باهظ.