بقلم: يحيى مصطفى كامل في المجال العام كما في حياتنا الخاصة وحيزنا الأضيق نجد أنفسنا محاطين بنموذج متكرر: ذلك الذي يهون من الأمور ويدعونا ألا نأخذ أي شيء بجدية تامة الذي يؤكد لنا أن ما نراه ليس إلا مظاهر خادعة لا تعني شيئاً يزعمون أحياناً (أو بالفعل يتصورون) أنها تمثيلية وكثيراً ما يعتقدون أو يحاولون إقناعنا بأنها مؤامرة على بلداننا وعلى الإسلام إن شيئاً لا ولن يتغير وربما تمادى البعض أولئك المهزومون دائماً وقبل أي معارك إلى كوننا حتماً سنخرج خاسرين في النهاية. شيءٌ من هذا يحدث الآن إزاء ترامب أوما أسميه ظاهرة ترامب فالرجل لم يخف أنه ينوي شراً تجاه منطقتنا (على الأقل من وجهة نظرنا) فقد قرر أن يقارب قضيتنا المحورية بعقلية وأسلوب رجل الأعمال والمطور العقاري لا لشيء إلا ليصفيها تماماً مهدراً جميع حقوقنا ومع أن هذا حقيقي وحاصل بالفعل إلا أنني على قناعة يشاطرني إياها الكثيرون بأن مشاريع ترامب ورؤاه والأهم من ذلك ما يمثله أوسع وأعمق من ذلك بكثير. ليس لدي أدنى شك بأن ذهنيته وأفكاره كما ثقافته وتحصيله العلمي سطحية وهزيلة تشكلت من سقط متاع الأفكار الدارجة في المجتمع ووسائل الإعلام الأمريكية بكل ما روج وشُحنت به من أباطيل ممجدة للذات ومنغلقة عليها إبان الحرب الباردة لكن كما يثاب المرء رغم أنفه فإن ترامب رغماً عنه يمثل ما هو أكثر وأعم من ذلك ويحيل إلى تساؤلات سياسية بل وجودية أخطر بكثير بما يتخطى شخصه إذ بغض النظر عن ضجيجه وثقته المفرطة في نفسه وافتتانه بها الذي يصل حد النرجسية فإنه يظل رئيس الدولة ذات الاقتصاد الأقوى في العالم (حتى الآن على الأقل) والقوة العسكرية الأولى لذا فمهما استسخفناه أو رفضنا ما يقوله وما يصرح به فيظل له ثقله وما زالت تُحسب تبعات تصرفاته. لعل أول ما يلفت النظر في سياسات ترامب تلك الهجمة أو الحرب الاقتصادية التي سارع إلى شنها على جيرانه كندا والمكسيك بالإضافة إلى عدوه الأول والمعلن الصين في صورة ضرائب مهولة تحت ادعاء أنهم سرقوا أمريكا طيلة عقود ثم لم يلبث أن شمل حلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا الملاحظ هنا أنه يعادي بلدين جارين اقتصادهما متداخلان شبه مندمجين مع الاقتصاد الأمريكي مع تكامل شبكات الإمداد والتصنيع والأسواق كما أن درجة التقارب الثقافي حد التماهي بين كنداوأمريكا ملحوظة إلى حد مدهش فإذا أضفنا إلى ذلك الخسائر التي عرفها السوق والأسهم في الأيام الأخيرة نتيجة عدم الاستقرار الذي أشاعته تصريحاته وتهديداته مع إعلانه بأن ذلك لا يعنيه ولن يردعه فلا بد أن نتساءل ما الدافع إلى كل ذلك الغضب أو التمزيق الذي يطال الذات؟ *توازنات القوى وأدوار اللاعبين مما يحيل كما أسلفت فلم أبالغ إلى أسئلة أعمق: هل هو يتحدث من دماغه؟ أيعبر عن آرائه الشخصية البحتة؟ لتأتي الإجابة أنه على الرغم من كل شيء لم يزل رئيساً منتخباً بالتالي فهو يعبر عن تيار ولعله جياش. السؤال الآخر عن دوره الشخصي والسؤال الأكبر عن دور الشخص الفرد في التاريخ أي حتى بفرض تجسيده أو تمثيله لميل اجتماعي فما مدى إسهامه في نبرة ودرجة صقل تلك الأفكار ومداها في التطبيق العملي ومن المسؤول عن وجود هذه الأفكار والمشاعر في المجتمع؟ بدايةً لا بد أن أقر وأقرر بصعوبة الإجابة على هذه الأسئلة جميعاً بل أزعم أنها ستظل محل جدال ساخن لعقود مقبلة. في ما يتعلق بشعبيته فهو تعبيرٌ بليغ وصارخٌ في رأيي عن غضب قطاعات عديدة لعل جلها من البيض وإن تخطاهم من الناقمين على ما يرونها أوضاعاً اقتصادية مجحفة ونهجا ثقافي ا مولغا في الليبرالية خاصةً في ما يتعلق بقضايا الهوية الجنسية والدينية وما أشبه لاسيما في ولايات حزام الصدأ حيث كانت الصناعات يوماً ما قبل أن تغلق أبوابها فترتحل إلى الصين والهند وغيرها من دول الشرق حيث العمالة الرخيصة وغياب قوانين العمل بما يجعل الطبقة العاملة مستباحة . من هذا المنطلق لعلنا نستطيع أن نضع يدنا على طرف الخيط فوراء ذلك الاصطفاف المدهش والمتناقض لبقايا أو حطام الطبقة العاملة وراء ملياردير تكمن التغيرات الاقتصادية الهيكلية التي دشنتها النيوليبرالية الاقتصادية يكمن سحب البساط من تحت قدمها تكمن الهزيمة إذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها. وراء ما نشهد في رأيي أزمة تعيشها الرأسمالية الأمريكية إزاء صعود الصين الاقتصادي والسياسي والعسكري والتحدي لمقدرة الاقتصاد الأمريكي على المنافسة وما نتج عن ذلك من تغييرات اجتماعية نتيجة محاولات التكيف للمحافظة على هوامش الربح لم يشكل الاتحاد السوفييتي السابق (ولا روسيا الحالية) منافسا اقتصاديا حقيقيا على الإطلاق أما الصين فأمرٌ آخر. لقد لجأ ترامب إلى الوصفة التقليدية والمخرج السهل المجرب سلفاً: اتهِم الاعداء في الخارج والداخل عن أزمتك في الداخل الحزب الديمقراطي وأنصاره والمهاجرون غير الشرعيين وفي الخارج العالم أجمع الذي سرق أمريكا أسئلةٌ أخرى عديدة تطرحها الظاهرة الترامبية على رأسها مثلاً قيمة الديمقراطية مع جمهور جله جاهل أو مشوه الوعي عبر عقود من التلقين والتأثير المستترين ومقدرة المنظومة على التصدي لمحاولات تقويض وتقليص الديمقراطية عن طريق الأغلبية المنتخبة ديمقراطياً. على صعيد آخر فإن تصريحاته وقراراته العدوانية وانسحابه من تمويل ومن ثم دور الولاياتالمتحدة في المنظمات الدولية وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي قلقل وزعزع ثقة حلفاء أمريكا التقليديين ويؤذن بتقويض خريطة التحالفات التقليدية المستقرة عقب نهاية الحرب العالمية الأخيرة. لم تزل رئاسة ترامب في بدايتها ولعلنا لم نر سوى أول الهزات في زلزال من شأنه أن يغير شكل العالم وتوازنات القوى وأدوار اللاعبين. كثيرٌ مما طرحت سيتعرض لمحاولات الإجابة في الفترة المقبلة لكن ما يجب الالتفات إليه والتأكيد عليه هو كون الظاهرة ذات جذور أعمق من مجرد ترامب فهذا التيار لن ينتهي بمجرد انتهاء فترة رئاسته أو في حال انتخاب رئيس من الحزب الآخر مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة تقييم حجم إسهامه الشخصي في حدة الصياغات رغم اعترافنا به. الأكيد أنه سواءً بقي أو رحل فإننا على أعتاب عالم جديد بملامح جد متغيرة وعلينا عرباً أن نجهد لفهمه إذا أردنا أن نجد لنفسنا مكاناً فيه كفاعلين لا مفعول بهم.