ردا على ما ورد في الأسبوع الماضي في تقرير وبيان لكتابة الدولة الأمريكية المتعلق بالحرية الدينية من معلومات مغلوطة وغير دقيقة بخصوص الجزائر، كان من الواجب توضيح هذا المفهوم وبيان ضوابطه ومقاصده في ديننا الإسلامي. الحرية الدينية مبدأ مقرر في الشريعة الإسلامية، ينطلق من الفطرة ويقترن بالمسؤولية في الإسلام، ولها ضوابط في الشريعة، وغايتها تحقيق الكرامة الإنسانية. والمسلمون ملتزمون بالمبدأ القرآني: {لا إكراه في الدين}، وقد مارسوا عبر التاريخ التسامح وقبول الآخرين الذين عاشوا في ظل الدولة الإسلامية، قال جل ذكره: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، ذلك لأن الإسلام احترم العقل البشري، وجعل له حرية اختيار الصالح أو ضده، ليترتب على ذلك جزاء الاختيار من ثواب أو عقاب. ومع ذلك، فقد بعث رسولا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وهو الرسول الخاتم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يقول ذو العقل: {ما جاءنا من بشير ولا نذير}، ولتقوم العدالة الإلهية بين العباد بالقسط. وتأصيلا لهذا المفهوم، جاءت نصوص كثيرة في الكتاب العزيز تقرره أيما تقرير، كما في قوله سبحانه: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}، وقوله لنبي الرحمة: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وهو خطاب إرشاد وتوجيه لنبيه ومصطفاه الذي كان يود أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقذهم مما أعده الله لمن خالفه من العذاب، وذلك لما جُبل عليه من بالغ الرأفة والرحمة، فأرشده أنه لا يملك الهداية، وأنها بيد الله وحده، وأن عليه واجب البلاغ فقط، وكل هذا هو تعليم لأمته والمبلغين عنه من ورثته العلماء والدعاة. وقد جاء ذلك تطبيقا عمليا في فتح مكة، حين لم يجبر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا على اعتناق الإسلام، على الرغم من تمكنه وانتصاره، ولكنه قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وعلى دربه أعطى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب للنصارى من سكان القدس الأمان، على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم، لا يضار أحد منهم ولا يرغم بسبب دينه. هذا هو مفهوم حرية التدين في الإسلام، وليس ما قد يفهمه بعضهم من الخروج من الدين الذي نشأ عليه أو دخل فيه، فذلك ما لا يقبل في شريعة الإسلام؛ لما في ذلك من استفزاز المجتمع المسلم واستخفاف بدينه، فإن الحرية الشخصية لا تنتهك حق الجماعة أو القوانين والأنظمة السارية، فينبغي أن يفهم الناس هذا المفهوم لحرية التدين، ولا يتعدوا حدود الله تعالى أو النظام العام في البلاد الإسلامية. مظهران رئيسان من مظاهر حرية العقيدة والفكر في الإسلام: أولهما حرية المسلم في تفكيره الديني وفي طريقة فهمه للدين وشرائعه وأسراره، دون أن يحول بينه وبين تلك الحرية تسلط من فرد أو جماعة أو دولة، ودون أن يصيبه من وراء آرائه الدينية ضرر في نفسه أو ماله أو عمله. ولقد فتح الإسلام باب الحرية الفكرية في فهم الدين والاجتهاد فيه على مصراعيه، فعرف المجتمع الإسلامي منذ عهده الأول الخلاف في فهم نصوص القرآن ونصوص الحديث واستنباط الأحكام، فتعددت مدارس تفسير القرآن واختلفت مذاهب علماء الكلام وكثر الجدل بين الفرق، وظهرت المذاهب الفقهية. والثاني حرية غير المسلم الذي يعيش في دار الإسلام في أن يحيا حياته الدينية الخاصة ويتعبد على طريقة دينه، وينظم شؤون حياته وفقا لمقتضيات ذلك الدين دون أن يتعرض لمضايقة أو اضطهاد أو أن يضار في نفسه وماله أو عمله جراء مخالفته في الدين للمجتمع من حوليه، وأن لا تتعرض أماكن عبادته للهدم أو التعطيل أو أي نوع آخر من أنواع المصادرة. ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارا وأصحاب ضياع وأطباء، وكان أكثر الكتاب والأطباء نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة. وللحرية الدينية مقاصد، نذكر أهمها: -تحقيق كرامة الإنسان، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}. وحتى يحافظ الإنسان على هذه الكرامة؛ وجب عليه أن يسير في الطريق التي وضعه الله فيها، وأن يحقق معنى الفطرة الإنسانية. -تأكيد مبدأ المسؤولية الفردية، قال تعالى: {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل}، {كل نفس بما كسبت رهينة}. تدل الآيتان على أن الإنسان حر في اختياراته وإصدار قراراته، لكنه مسؤول عن هذا الاختيار. -إظهار سماحة الإسلام، والناظر في الشريعة الإسلامية يجد أن كل التشريعات جاءت لتظهر إنسانية هذا الدين وسماحته، حتى مع الأعداء {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}. -قمة الإنسانية في هذا الدين، أنه يراعي طبيعة الإنسان وفطرته، ويعلي من شأن عقله ويحترم حريته، ويحفظ إنسانيته، ولا يناقض كرامته، سمح في تشريعاته، سمح في معاملاته. -ومن الضروري احترام غير المسلمين للخصوصيات الإسلامية، وأن توقف حالات التطاول على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمقدسات الإسلامية.