في هذا الشهر المُبارَك -شهر رمضان المُعَظَّم- تطالعنا ذكرى غزوة بدر الكبرى؛ ففي اليوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة الشريفة، وقعت هذه الغزوة، وكانت فيها قوة المسلمين ثلاثمائة وثلاثةَ عشرَ مقاتلا؛ ليس معهم إلا سلاح خفيف: سبعون بعيرا، وفَرَسَان، وقد خرجوا لا للقتال، وإنَّما للاستيلاء على عِير قريش القادمة من الشام. وكان جيش المشركين تسعمائة وخمسين، وعِيرهم سبعمائة بعير، ومائة فرس، وسلاح كثير.. فالتقت القوتان بماء بدر، ورأى المسلمون جيش عدوهم فلجؤوا إلى الله -عز وجل- واستغاثوا، وألقوا بأمرهم إليه؛ فاستجاب لهم، وأمدهم بالملائكة؛ ثبَّتوهم؛ وقاتلوا معهم؛ ونصرهم الله على عدوهم نصرا عزيزا (إِذْ تَستَغِيثونَ ربَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لكم أنِّي مُمِدُّكُمْ بألفٍ منَ الملائكةِ مُرْدِفِينَ وما جَعَلَهُ اللهُ إلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ). موقعه بدر وخطورتها الذي يطالع أنباء موقعة بدر، ويستعرض مقدماتها ونتائجها؛ ليحس لها بمنزلة خاصة، ويدرك أن التاريخ أودع في فصولها سرًّا تكتنفه الهيبة، وجعل من أدوار القتال فيها موعظة خالدة لا تفتأ تتجدد ذكراها ما بقي في الدنيا قتال بين الحق والباطل، وصراع بين الظلام والنور. وما ظنك بموقعة يكون مصيرها الفاصل في عبادة الله على هذه الأرض هل ستبقى أم ستفنى؟! ويشعر قائد المعركة بهذه الحقيقة الحاسمة فيلجأ إلى الله مستنجزا وعده، ولما كان يوم بدر نظر الرسول إلى المشركين وهم نحو الألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ثم استقبل القبلة، ومد يده وجعل يهتف: "اللهُمَّ آتني ما وعدتني، اللهُمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تَهلِكَ هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض، وما يزال يهتف بربِّه مادًّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وحتى نزل الوحي مطمئنًا؛ سيُهزَم الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُر. وما ظنُّك بموقعة تكون الخصومة فيها في الله، ويكون القتال فيها بداية لسلسلة من المعارك، يحتدم النزاع فيها بين الحق والباطل، هذه السلسلة من المعارك التي خاضها المسلمون -من بعد- في فارس والروم لا تحسب الصلة بينها وبين بدر مقطوعة؛ إنها صلة النسب بين الأصل ونتائجه؛ فكان أول سيف شُهِرَ في بدر إيذانا بابتداء النضال المسلح بين الحق والباطل، كلما انتهت معركة قامت أختها. القَدَر يُمهِّد للموقعة ويفرضها لقد فُرِضَت الموقعة على المسلمين فرضا، وفُوجِئوا على غير استعداد بتحدي صناديد قريش وأبطالها لهم؛ ولم يكن بُدٌّ من قَبول هذا التحدي، وواجه النبي- صلى الله عليه وسلم- الموقف بما يتطلبه من إيمان وثقة، غير أن كثيرا من المسلمين تساءل..؛ إذ كيف يواجه هذا العدو الذي لم يستعد له؟! "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤمِنينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ". (الأنفال: 5-6) ولكنَّ القَدَر كان يدفع الأمور إلى مجراها الذي أعده إعدادًا مُحكمًا؛ فها هو ذا قد جمع بين الفريقين على غير موعد (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ ولكن ليقضيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً..). (الأنفال: 42)، وهاهو ذا يغري كليهما بالآخر، ويجعله يرى عدده ضئيلاً قليلاً (وَإِذْ يُريكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرجَعُ الأمُورُ). (الأنفال: 44) وهاهو ذا يبعث الشيطان لينفخ الغرور في أتباعه، وليصيح بينهم (لا غَالِبَ لَكُمُ اليومَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جَارٌ لَكُمْ) (الأنفال: 48)، وهاهي الأمور تتطور بسرعة عجيبة في معسكر الإيمان؛ فيتتابع المهاجرون على الموت: لا نقول لكَ كما قال قوم موسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)؛ ولكن نقاتل عن يمينك، وشمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، وكان في وُسْع الأنصار أن يتحللوا من هذه المعركة؛ فإنهم إنما عاهدوا الرسول على حمايته في بلدهم، ومنعته ما دام بينهم؛ فإذا خرج في حرب هجومية فليس له عليهم سبيل، ولكن الأنصار لم يتحللوا، وإذا زعيمهم سعد بن معاذ يقول: يا رسول الله، قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا على السمع والطاعة، فامضِ لما أَرَدْتَ فوالذي بَعَثَكَ بالحق لو استعرضْتَ بنا هذا البحر؛ فخضتَه لخضناه معك، ما يتخلف منا أحد. وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا وعدوك، إنَّا لَصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله- عز وجل- أن يُريَكَ منا ما تَقَرُّ به عينُكَ؛ فَسِرْ بنا على بركة الله. سلاح الإيمان فما الذي حمل هؤلاء الأصحاب على أن يقفوا هذا الموقف مع أن جذوة المعركة وجوانبها المادية؛ لتجعل أشدَّ الناس تفاؤلا ينظر إلى آثارها من خلال غيوم سُود؟ إنه الإيمان بالله الذي يضع أمر الله ورسوله في جانب، والدنيا كلها في جانب آخر، وإنه التسليم لله ورسوله مهما حذَّر العقل، ونهت ظواهر الأشياء، وإنها الثقة التي لا تُجادل في أن الموت في الله شرف، لا يقل عن شرف النصر على الناس، وهيهات لمن يحمل هذه المبادئ أن يَذِلَّ أو يُهزَم، أو يكون بعيدا عن تأييد الله ونصره. وهكذا جرفت موجة الإيمان كافة عوامل التردد، وجاءت الساعة الرهيبة ودار القتال، ومشى مَلَك الموت يقطع رقاب الكفار، وتنجست الرمال بدماء الطائفة التي آذت الله ورسوله، وَوَطِئَت أقدام المسلمين حدودا وجباها طالما استنكرت أن تسجد لله رب العالمين. يقول شاهد عيان لأبي لهب يصف له ما كان: ولا تسيء يا عماه ما كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافَنَا يقتلونَنَا؛ ويأمرونَنَا كيف شاءوا.. لقينا رجالا لا يتلقاهم شيء، ولا يقوم لهم شيء، وصدق الله العظيم إذ يقول: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤمِنينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ* ذَلِكُم وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ)(الأنفال: 1718). أسباب النصر وللنصر في كل حرب أسباب فعالة مثل: الإعداد والتدريب وتوفير السلاح وتوفير عنصر المفأجاة إلى غير ذلك من الأسباب، ولا بد للمسلمين أن يأخذوا بهذه الأسباب جميعا؛ لأنها سنة الله في كونه، وناموس من نواميس الحياة والأخذ بالأسباب من صميم التوكل على الله. وهناك أسباب للنصر لا يد للبشر فيها، فللحالة الجوية دخل عميق في تصريف المعارك، وقد شاهدنا كيف يوقف البرد والثلج زحف الجيوش، وكيف توقف السحب هجوم الطائرات، وكيف يؤثر هذا وذاك في النهاية الحاسمة، وكذلك الإيمان الذي يملا القلوب بالله والثقة في وعده، والإصرار والعناد من أسباب النصر وحالة الجو بيد الله وحده وحالة القلوب كذلك بين أصابع الرحمن، وأخيرا قدرته ومشيئته "وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم". كان موقف المسلمين في المدينة بحاجة إلى تدعيم بعدما تكاثرت فتن اليهود ودسائس المنافقين، وماذا عسى يصنع المهاجرون الغرباء عن وطنهم، والأنصار الغرباء بعقيدتهم بين جماهير المشركين المتآلية عليهم؟ لذلك جاءت موقعة بدر وجاء النصر فيها، مكأفاة رائعة لقوم ظلوا بضعة عشر عاما مؤمنين صابرين، وعقابا مريرا أبطرهم الطغيان وأغراهم بالعدوان "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعللكم تشكرون". آل عمران. إن الإيمان هو السلاح الوحيد الذي لا يوجد في ترسانة الغرب أو الشرق والإسلام هو الإسلام يخرج الرجال ويصنع الأبطال في كل زمان ومكان، وما على المسلمين إلا أن يلجؤوا إلى الله ويملؤوا قلوبهم بالإيمان به والثقة في وعده، ويحكموا شريعته في كل أمورهم ويعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا ولهم عندئذ أن ينتظروا نصره وتأييده فلن يخلف الله وعده ومن أوفى بعهده من الله (وكان حقا علينا نصر المؤمنين).