بدأت ملحقة متحف المجاهد بالرغاية، الأسبوع الفارط بمقر مركز الطفولة بشارع ديدوش مراد بوسط العاصمة، عملية تسجيل شهادات بعض المجاهدين الذين شاركوا في أحداث هامة في تاريخ الثورة التحريرية، سواء في الجزائر أو في فرنسا، وقد كشف اللقاء حقائق تاريخية هامة تضاف إلى باقي الشهادات السابقة التي شرع في تسجيلها ضمن عملية كبرى انطلقت منذ سنة 1998 · الكشافة جناح فعال في الثورة سجل المتحف شهادات بعض الذين عايشوا الحركة الكشفية في أصعب مراحلها إبان الثورة التحريرية، ومنهم شقيق الراحل محمد بوراس المجاهد مراد بوراس، الذي أعطى حقائق ربما تكشف لأول مرة عن مسيرة أخيه، خاصة إبان الحرب العالمية الثانية وسعيه مع أطراف أجنبية (ألمانيا) لإخراج فرنسا من الجزائر وتخطيطه للتدريبات العسكرية لمختلف الأفواج الكشفية، وفي أحد اللقاءات التي نظمها المتحف، حضرت "المساء" شهادات بعض المجاهدين والتي سجلت صوتا وصورة، منها شهادة المجاهد محمد موح الخير، الذي تعاطى العمل الكشفي بالعاصمة منذ الصغر، حيث كان يوجد بحي القصبة وحده 200 كشاف موزعين على 5 أفواج منها"فوج الفلاح"، "القطب"، "الشهاب" و"الإصلاح"· وانخرطت الكشافة في العمل الثوري من أوسع الأبواب، حيث أوت المناضلين من مختلف الولايات بمن فيهم المحكوم عليهم بالإعدام ولم تستطع فرنسا اكتشاف هويتهم رغم تفتيشها عنهم·· كما كان للكشافة دور مهم آخر وهو التكفل بجرحى الثورة داخل العاصمة، خاصة في فترة ما بعد تاريخ 19 مارس 62، حينما مارس الجيش السري أفظع الجرائم في حق الجزائريين العزل، وذكر السيد محمد موح الخير، أن تلك الفترة شهدت قتلا عشوائيا للجزائريين عبر كامل شوارع العاصمة، فكانت الكشافة تتكفل بنقل الضحايا وتقديم الإسعافات الأولية للجرحى كي تجنبهم الذهاب إلى المستشفيات الفرنسية، وقد بلغت إرادة الكشافة إلى حد أنها أنشأت مستشفى سريا (تحت الأرض) بشارع الحاج عمر أسفل القصبة، حقائق أخرى قدمه هذا المجاهد ضمن شهادته التي تميزت بحدة الذاكرة·
حضرت جلسة التسجيل المجاهد فرية قرمية (تمارس المحاماة حاليا)، التي شاركت في الثورة من خلال فدرالية جبهة التحرير بفرنسا، المجاهدة مولودة سنة 1944 انضمت إلى صفوف الثورة ولم تتعد ال 14 سنة، إذ أنها من والدين مناضلين من ولاية سطيف وفقدت عائلتها 17 فردا في مجازر 8 ماي 1945 · انتقلت العائلة إلى فرنسا سنة 1954 وتحول مسكنها إلى مقر اجتماعات لقيادة الفدرالية، وهكذا أسندت لهذه الطفلة رغم صغر سنها مهمة إيصال السلاح والوثائق والأموال، كما عملت على طبع الوثائق والمناشير السرية (على الآلة الراقنة) بمساعدة مريم بن حمزة التي كانت تسمى سكرتيرة الحكومة المؤقتة· دخلت قرمية أيضا المناطق المحرمة على المناضلين في فرنسا، فتكفلت هي بجمع الأموال··· تحدثت أيضا عن العراقيل التي واجهتها أحيانا في مهماتها وكيف تتصرف معها بهدوء وحنكة رغم صغر سنها، وأرجعت ذلك إلى التربة الأصلية للعائلة الجزائرية التي تميزت بالصبر والوطنية وحب التضحية· لم تتحدث المجاهدة فقط عن نفسها، بل راحت تستعرض نضال زملائها وتصف تضحيات مسؤوليها، كما توقفت طويلا عند أخلاق بعض المجاهدين والشهداء، واهتمام بعضهم بهندامهم كي لا يظهروا أقل من المستعمر شأنا، ناهيك عن هؤلاء الذين يملكون ملامح أوربية وظفوها لخدمة الثورة· عدالة القضية الجزائرية جعلت بعض الفرنسيين ينضمون إلى العمل في صفوف الثورة، وقد أبلوا البلاء الحسن، وهم الذين أطلقت عليهم تسمية "حاملو الحقائب" سنة 1957· ذكرت قرمية أيضا مظاهرة 9 نوفمبر "بليون" التي شاركت فيها والتي جاءت بعد مظاهرات 17 أكتوبر كخطوة لتوعية الرأي العام الفرنسي· مجاهدة أخرى جمعت في حقيبتها ذكريات لا تنسى، وهي السيدة حفيظ مليكة التي عملت في فرنسا أيضا، وانخرطت في صفوف الثورة ولم يكن سنها يتعدى ال 15 سنة·· علما أنها مولودة بالقصبة سنة 1941، ترعرعت مليكة في بيت ثوري وتعلقت بالثورة منذ أن كانت في سن السادسة، عندما زارت رفقة أمها والدها المسجون ببوسعادة بسبب نضاله السياسي، فأخذ العسكري الفرنسي يسبه ويهينه أمامها، فقررت أن تحارب العدو· وكان والدها على علاقة مميزة مع الراحل عباس فرحات الذي أمره بالإقامة بفرنسا ودعوة مناضلي حزب مصالي الحاج للانضمام إلى جبهة التحرير، ومع نجاح مهمته كاد الأب أن يفقد حياته، بعدما أضرم النار ببيته فهرب وانتقل إلى منطقة فلاحية بليون ليواصل بعدها نشاطه، فتعرف على قادة الثورة عن قرب منهم بن طوبال، بومنجل وغيرهم·· وكانوا يلقبونه ب"الشقلالة" لكثرة كلامه وقدرته على الدعاية وتأسيس الخلايا السرية··· أقحم سي محمد ابنته مليكة في العمل الثوري برغبة منها، فكانت ترافقه في بعض العمليات وتقرأ له التقارير السرية، وعند مداهمة بيت العائلة ابتلعت الوثائق السرية كي لا تقع في يد السلطات الفرنسية، كما دخلت مع والدها السجن وذاقت مرارة التعذيب والإهانة، وسرعان ما أطلق سراحها وعادت إلى نشاطها· ولعل أهم عملية قامت بها هذه المجاهدة، إنقاذها لطابع الجبهة من الوقوع في يدي فرنسا، وأطرف عملية قامت بها، دخولها مقر الشرطة الفرنسية لطلب حمايتها من معاكسات أحد الشبان وكانت تحمل الوثائق الهامة التي لم تتفطن لها الشرطة· ذكريات كثيرة سجلتها تلك المجاهدات اللواتي "دوخن" المستعمر في عقر داره، ولم يفرطن في شيء من هذه الذاكرة، بما فيها الوثائق والصور الفوتوغرافية· وفي تصريح ل"المساء"، أشار السيد مسعود خوالت مدير ملحقة متحف المجاهد بالرغاية، أن هذه العملية تدخل في إطار حفظ الذاكرة التاريخية والتي من شأنها تسجيل حقائق تاريخية قد تزول بزوال جيل الثورة·