الآن، وقد ارتحلت، يا خويا سيدي علي كويرات، صوب جنّة الفردوس، بإذن الله تعالى، أشعر، كغيري من الجزائريين والجزائريات جميعا، بحضورك القوي بين ظهرانينا. كلا، أنا لا تعتريني سحائب الحزن، ولا أسمح لها بأن تنشر حلكتها الثقيلة الكثيفة في سمائي الداخلية. الشيء الجميل في هذه الدنيا باق ما أشرقت شمس وما غربت! أوليس ذلك بالأمر الذي ثبتت صحته منذ أن خلق الله السماوات والأرض؟ دعني، في هذا المقام، أستذكر قعدة على رصيف إمارة البحر عام 1978. كنا، يومها، في جمع من أبناء الجزائر- العاصمة. وأنت تعلم حق العلم أن الكلام يأخذ ألوانا بهيجة كلما اجتمع مثل هؤلاء الناس. جملة من هنا، وكلمة من هناك، وضحكة تصدر من الأعماق عن هذا، وتعليق يند عن الآخر، وتحلو الدنيا، وتطيب. كنا في قعدة صيد، في أرباض أميرالية البحر، نلقي بصنانيرنا، الواحد تلو الآخر، وما أسرع ما ينطلق صوتك الهادئ: شوف، يا خويا، الرشيد، أنت الآن، بقبعتك هذه، أشبه ما تكون بالممثل ”جان غابان” في فيلمه الرائع ”بيبي لوموكو”! والرشيد هذا ليس إلا الممثل الظريف، رويشد. لا يرد عليك، يا سيد علي، بل ينتظر المناسبة، بدوره، لكي يعلق بكلام آخر. ولا يلبث أن يسحب صنارته من الماء وقد التصقت بها حبّة من ”البوجا”، ويرسل عندئذ كلامه نحوك: يا سيد علي، يا أيها الذي يظل واقفا أبد الدهر: روح، الله يديك لهوليوود! ويقول كل من في ذلك الجمع من الصيادين: إن شاء الله، يا الرشيد! من فمك لربي! أتذكر أن تلك القعدة التي لا تتكرر مثيلتها في الدهر إلا مرات قليلة، كانت ذات صائفة رائعة، التمعت خلالها صفحة البحر تحت أشعة الشمس، وبدت لنا الجزائر، قبالتنا، في أبهى حللها. وما كنا لنلقي بالا إلى السفن الكبيرة التي ترسو بميناء الجزائر، ولا إلى تلك التي تغادره محمّلة بالسلع والبضائع، وبالمسافرين. العجيب أن تلك القعدة أنستنا الافتتاح الرسمي للمونديال الكروي. أهو الكلام الجميل الرائق، بين أبناء العاصمة، هو الذي كانت له الغلبة علينا جميعا حتى أنسانا أن نجمع حوائجنا، ونعود إلى ديارنا لمتابعة وقائع ذلك الافتتاح؟ لست أدري بما أجيب. المهم في الأمر هو أن كويرات قام من مكانه، وابتعد عنّا قليلا، وهو يقول: مللت اصطياد سمك ”البوجا”. أنا في حاجة إلى مطاردة بعض سمكات ”البوسنان”! وعلّق رويشد بدوره: لا تنس، يا خويا علي، أن تدعونا لتناول طبخة شهية من البوسنان معك! ويسود الصمت خلال تلك القعدة، ذلك لأن كويرات الذي نأى عنّا قليلا هو أشبه ما يكون في نظر ذلك الجمع بالتوابل التي نلقي بها في القدر لكي يروق طعمها ومذاقها. وهاهو، وقد عاد إلينا بعد ربع ساعة، تضطرب بين يديه سمكة كبيرة من البوسنان، فيعلق رويشد: الله أكبر، هذه السمكة تكفي لإطعام قرية من قرى البنغلاديش! ثم يسأله أحد الرفاق: هل أنت مشغول بإعداد مسرحية من المسرحيات، يا سيد علي؟ ويجيبه أن نعم. ويعود نفس السائل بتعليق ساخر: سأتفرج على المسرحية، وسأجلس في الصف الأول لكي أزعجك بعض الإزعاج! وهنا بالذات، يتحداه سيدي علي قائلا: شيش..شيش..تعال، وسترى كيف أمسح بك الأرض مسحا! سأرتجل عندئذ، وعلى التو، كلاما يفحمك، يا هذا! ألا، أيها الراحل عنّا، ما أروع تلك القعدة! وما ألطف رويشد وعبد الغني وفريد العملاق وعلي حاليت ورمضان صديقي وغيرهم من الصحاب الذين هم اليوم في ذمّة الله! الله يرحمك، يا خويا سيدي علي، يا أيها الذي ”مات واقفا” في السينما، وبقي واقفا أيضا في وجدان كل جزائري وجزائرية، وكل من عشق الفن الجميل!