البلاغيون العرب القدامى لم يلتفتوا إلى جانب الفكاهة في الأدب، بل اكتفوا بملامسة الموضوع هنا وهناك. وليس أدل على ذلك من التعبير الشائع: إذا مدحت، قلت أنت، وإذا رثيت، قلت كنت، وإذا هجوت، قلت لست! لم يضيفوا شيئا، في حدود علمي، إلى موضوع الفكاهة. لم يقولوا، على سبيل المثال، إذا ما زحت أحدا، قلت كيت وكيت. لا بد من هذه التقدمة للدخول إلى عالم أخينا الراحل، عمر البرناوي. فالذي أعرفه عنه أنه كان صاحب فكاهة ودعابة، يمتحها من نفسه، ومن قلب المجتمع الواسع، ومن التراث العربي العريق. ولي مع عمر البرناوي حكايتان فيهما الكثير من أسباب الفكاهة والدعابة، وأريد أن أعرضهما عليكم في هذا المقام، حتى وإن كان مقام تأبين. الحكاية الأولى تدور حول حياته الشخصية وهمومه حين كان طالبا بتونس في الخمسينات من القرن المنصرم. وقد أشرت عليه بتدوينها في مذكراته، لأنها جزء من تراث الإنسان الجزائري ومعاناته في طلب العلم. رواها لي ولسان حال يتراوح بين الضحك والغضب، إذ تعين عليه أن ينظر إلى مراحل حياته المختلفة حين استقر به العيش في بلده بعد أن افتك استقلاله افتكاكا. ولما كنت أعرف طرفا من دعاباته، انفجرت ضحكا قبل الأوان إن جاز التعبير، فانتهرني قائلا: ريث، يا خويا مرزاق، فأنت لم تسمع الحكاية بعد! وكان أن فعلت، فأمسكت عن الضحك. عندما كنت أطلب العلم في حاضرة تونس، والكلام لعمر البرناوي، كثيرا ما كنت في حاجة إلى القرش والدينار لاستكمال الشهر، وانتظار المنحة. والبرناوي ينطق كلمة المنحة بنفس ما ينطق به كلمة (الهبة) الهابطة من السماء، لأن الهبوط في اللغة يستتبع الإستقرار، والبرناوي كان في أمس الحاجة إلى الاستقرار، أي إلى استقرار المنحة والقرش والدينار حتى يقوى على التفرغ للتحصيل العلمي. وفي ذلك العام، ولهيب الثورة على أشده في مختلف أرجاء الجزائر، تأخرت المنحة- الهبة في الهبوط من سمائها، والإستقرار في جيبه على الرغم من ضآلتها. وشاءت تصاريف القدرة الإلهية أن ينزل المطر مدرارا من سماء متجهمة، وينساب في طرقات العاصمة التونسية حتى إن الناس راحوا يخوضون في الطين والوحل هنا وهناك. وكان عمر البرناوي من بينهم، إذ تعين عليه أن ينطلق على قدميه إلى أماكن التحصيل العلمي. وجاءت جحافل البرد فزادت الطين بلة، وشعر أخونا البرناوي بقرصاتها في الصباح والمساء. ومضت الأمور على هذه الحال بضعة أيام، والمنحة لا تجيء، ولم يكن أمامه سوى الصبر والمجالدة على غرار ما يفعله إخوته المجاهدون في جبالات الجزائر ومدنها وأريافها وقراها. وشكا للشعر همومه، فوجد بعض الإستجابة منه، غير أن ذلك ما كان كافيا، إذ المهم في نظره هو تدفئة جسده أولا، وإرواء بطنه، والنوم في مسكن يريحه من همومه كلها إذا ما جن الليل. وازدادت المنحة تأخرا، ولعلها تعثرت في الطريق، لأنها لم تهبط من السماء، وإنما جاءت عن طريق البر، على حد قوله. لكأن هناك فرقا بين الهبة تهبط من السماء، والهبة وهي تجيء من أطراف الأرض على قدمين متورمتين، وهذا من تعبيره أيضا. وازدادت لسعات البرد فألهبت شعبه الرئوية، وجعلته مثل المسلول الذي وصفه الشاعر اللبناني بشاره الخوري في إحدى قصائده. وامتنع عن الدراسة بضعة أيام في انتظار الفرج. وأخيرا حدث ما لم يكن في الحسبان، فها هو أحد أصدقائه يزوره في مسكنه على سبيل الوساطة بينه وبين المنحة المالية. ولا شك في أن عمر البرناوي نظم الشيء الكثير خلال هذه المرحلة الصعبة لكنه لم يذع منه شيئا في الناس. قلت له: يا عمر، أنت أشبه ما تكون بالشاعر أبي تمام، ذلك الذي حاصره الثلج في قرية من قرى خراسان حين كان يهم بالعودة إلى بلده، ووجد نفسه مجبرا على تأثيث وقته بما هو جميل، فاستذكر عيون الشعر العربي منذ العهود الجاهلية الأولى، وطلع على دنيا الأدب بما هو معروف باسم (الحماسة الكبرى) في ظرف خمسة عشر يوما. فهل فعلت شيئا من ها القبيل؟ أدار عينيه في محجريهما وأجابني: الجوع كفر، يا مرزاق، والبرد القارس أقصر طريق إلى الكفر! ويهب أخونا البرناوي لتوه بعد أن حسب حسابا لقيمة المنحة المالية، وينطلق صوب المحلات التجارية مثل دون كيشوت، ولكن، على قدميه المتقرحتين من البرد، وليس على متن جواد أعجف. ولا تكاد تمر عليه بضع دقائق حتى يكون قد ابتاع لنفسه سترة جلدية مبطنة بالصوف، وقبعة جلدية، وسروالا من الكتان الخشن كأنه واحد من بحارة المحيط الأطلسي الشمالي، وجزمة، ولكن من الكاوتشو. ثم ها هو يعود إلى مغناه وهو طروب على حد قول الشاعر إيليا أبي ماضي. وتشاء التصاريف الإلهية أن تقول: فيا سماء أقلعي! وتنقضي الساعة والساعتان، وإذا بالشمس تشرق، ثم تتوهج في كبد السماء. وتسعى الحرارة في الأرض وفي جوانح الخلق. كل ذلك وعمر البرناوي متلفع بسترته الجلدية، مخوض بجزمته في الطين المتيبس على أسفلت الطرقات. ولعله، وهو الطالب في الحاضرة التونسية قرأ ذلك الوصف البليغ الذي جادت به قريحة أحد الناثرين التونسيين عن الصراع بين الشمس والريح، والتنافس فيما بينهما من أجل ترويض الكائن الإنساني. أجل، من منهما يقوى على تعرية الإنسان، الشمس أم الريح؟ وتأخذ الريح بأسباب المبادرة، فتصفر وتزمجر أملا منها في أن تطير أثواب الإنسان تطييرا، لكنها لا تفلح، فهو يزداد التفافا وتشبثا بثيابه كلما عتت. وهاهي الشمس تدخل الحلبة بدورها، فترسل أشعتها اللاهبة، ويحاول هذا الكائن البشري الحفاظ على هيئته وهندامه، لكنه يضطر في آخر المطاف إلى التخلي عن ثيابه بحثا عن بعض البرودة. عمر البرناوي دخل في صراع مع الشمس، من حيث يدري أو لا يدري. في اليوم الأول خلع سترته الجلدية وقبعته، وفي اليوم الثاني، سار في أرجاء تونس مكتفيا بقميص واحد، غير أن جزمة الكاوتشو بدأت تقلقه، إذ ما بالكم بإنسان يسير بمثل تلك الجزمة في غابات إفريقيا الإستوائية! وتصبب العرق من جسده كله، واتخذ سبيله في جزمته سربا، وبدأت الرائحة المقرفة تثقل عليه، ثم ها هو يتخلص من جزمته، ويزويها في مكان ما من مسكنه. وهاهو أخونا البرناوي يحتاج إلى شراء حذاء خفيف للترويح على قدميه، وإلى لباس صيفي يكشف عن قامته السمهرية في مدينة أفسحت صدرها لتباشير صيف ملتهب. ولكن، أين له بالمال؟ وتشاء الأقدار في تلك الساعات الجهنمية أن يصدر القرار من قادة الثورة الجزائرية بإرسال عمر البرناوي وعدد من صحبه من الطلبة الجزائريين إلى مدينة السلام، مدينة بغداد، لكي يواصل تحصيله العلمي وينال من جامعتها بكالوريوس الأدب العربي. لو أنني عايشته في تلك المرحلة من عمره، لرجوته أن ينظم لنا قصيدة عصماء أو ملحمة في هذا الموضوع بالذات. الحكاية الثانية لها علاقة بالجانب السياسي في حياة عمر البرناوي، وبطريقته في تمضية أوقات الراحة. وإني لأراها في غاية الطرافة لأنها تنطوي على جانب لا يعرفه الكثير من أصدقائه ومن محبي شعره ومتابعي برامجه الإذاعية ونشاطه في نطاق اتحاد الكتاب الجزائريين. كنت والبرناوي جيرانين في نادي الصنوبر، إذا فاتنا اللقاء في الصباح، كان حتما علينا أن نلتقي في المساء. وكنت قد دخلت طور التقاعد، ولا أكاد أغادر داري إلا لأقضي بعض الحاجات وأعود إلى مطالعاتي وكتاباتي. أما عمر، فكان يعود إلى داره بعد العصر، وقد أرهقه العمل السياسي والتنظيمي في نطاق المجلس الإنتقالي الذي كان عضوا فاعلا فيه. ما كان يخلو إلى الشعر والقراءة والكتابة، سواء أكان الجو صحوا أم عبست السماء وتجهمت. يخلع ثيابه الأنيقة وربطة عنقه، ويسارع إلى ارتداء ثياب أصفها بالعادية على الرغم من أناقتها. ويضع قبعة كتانية، وجاكتة خفيفة، ثم يحمل عدته من أدوات الصيد بالإضافة إلى قفتين، إحداهما يضع فيها الصنانير والخيوط وقطع الرصاص، أما ثانيتهما، فيضع فيها الطعم، ويا له من طعم فاخر بالقياس إلى ذلك الذي يستخدمه هواة الصيد على الشواطىء. أخونا عمر البرناوي كان يبتاع كيلوغراما من سمك الجمبري ليحاور سمكات تتمرد عليه دائما وأبدا. ويحمل على كتفه قصبة الصيد، وينزل صوب الشاطىء الرملي حين يحل الغسق. ذات مرة، فاجأته وهو وحيد يصول ويجول بالقرب من الماء. يلقم صنارته حبة بأكملها من الجمبري، ويطوح بالخيط صوب عرض البحر. ثم يغرز القصبة في الرمل، ويجلس ليدخن منتظرا ما يجود به البحر. نزلت كعادتي صوب الرمل في قلب العتمة، ووقفت على مبعدة منه دون أن يراني. ثم انبطحت، وتحايلت عليه بأن غيرت صوتي حتى لا يكتشف من أنا بحكم أن بحة صوتي معروفة لدى جيراني كلهم. قلت مناديا إياه: يا بختك، يا سمك! ستشبع هذه الليلة مثلما شبعت دائما مع سي عمر البرناوي! نظر نحوي، فلم تقع عيناه علي، ثم بسمل وحوقل، ومضى يدخن سيجارته بشراهة وهو يحدق في الأفق المظلم الواسع. وكررت ندائي: يا بختك، يا سمك! جاءك هذا الصحراوي ليتكرم عليك، هذا الذي تربى على الجراد، ولم يميز يوما بينه وبين الجمبري! وعاد البرناوي ليبسمل ويحوقل، والطريف أنه خلع نظاراته في قلب الغسق طمعا منه في أن يكتشفني، ولما لم يستطع ذلك، سحب الخيط، وعاد فألقم الصنارة سمكة جمبري أخرى. قلت له ممازحا: عد إلى شعرك، يا رجل! عد إلى صحرائك الواسعة فأنت خبير بها. دع البحر لأمثالي من أهل الصيد! ولم أدر لحظتها أنني كشفت له عن هويتي، فخلع نظاراته مرة ثانية وقال: أين أنت أيها القبائلي؟ فوجدتني مكرها على الإقتراب منه بعد أن انطلت حيلتي علي لا عليه. تصافحنا، لكنه أبقى يمناه في يدي، وقال لي مهددا: - سأهجوك بقصيدة تسير بذكرها الركبان! سألته: ولم يا تراك تصر على أن تطعم السمك من جوع دون أن يتكرم هو عليك، ويهبط ضيفا على قفتك الفارغة؟ - سأهجوك بقصيدة تسير بذكرها الركبان! خشيت على نفسي، فأجبته: لو فعلت، لكتبت عنك مقامة تظل في أسماع الدهر. تردد حينها، وسألني: ما الذي ستقوله في مقامتك؟ أجبته: في مقدورك أن تنظم هجوك، ولكن، إياك أن تكرر المشهد! سألني: وأي مشهد تعني؟ أجبته: ذلك الذي حدث بيني وبين شيخنا الظريف الشاعر الأخضر السائحي. كنا ذات يوم على متن سفينة مغاربية في رحلة من طنجة إلى ميناء طرابلس، وداعبته بقولي: يا شيخ، عم تبحث؟ مستفعلن مستفعلن. لك أن تجيز، ولكن، دون أن تستخدم كلمات من مثل الحدث والخبث والجدث وما شاكلها. ولم يفعل الشيخ الأخضر السائحي، لا لأنه كان عاجزا، ولكن، لأن عددا من المثقفين المغاربة جاؤوا وجلسوا بيننا فجنبوني من حيث لا يدرون، الوقوع في ورطة ما بعدها ورطة. وهل هناك ما هو أخطر من صولة الشعر حتى وإن غاب زمنه؟ أشعل البرناوي سيجارة أخرى، وسألني: - بالله عليك، قل لي، كيف ستدبج مقامتك المضيرية؟ أجبته: لن تكون مضيرية ولا خراسانية، بل ستكون بحرية اللون والمضمون، وعن إنسان شاعر يدعي معرفته بالبحر وبالسمك، ويلقمه كيلوغراما من الجمبري، ويعود خاوي الوفاض إلى بيته كل مساء. سألني: هل تعنيني أنا؟ أجبته: إياك أعني، يا جارة! وهنا أدرك البرناوي أنني كنت جادا في كلامي، فناولني شايا ساخنا، وأردف بقوله: - لن تكتب شيئا،ولن أنظم شيئا ضدك. ولكن، قل لي بربك: ما هو الدور الذي كنت تنوي إسناده إلي في مثل هذا المشهد الشاعري الجميل؟ أجبته دون تردد: دور عمر البرناوي، وأختتم المقامة على طريقة بديع الزمان الهمذاني، صاحب الفضل الأول في فن المقامات، ذلك الذي كان ينهييها ب: فإذا هو أبو الفتح الإسكندري! وانتهت الممازحة بيننا عند هذا الحد، عليه رحمة الله الواسعة!