عادوا من بعيد لزيارة أرض الوطن بعد غياب دام عدة سنوات هم من أبناء الجيل الثالث من الجزائريين الذين هاجروا إلى بلاد الشام إبان الثروات الشعبية للحاج مقراني والأمير عبد القادر وهناك حتى من رحل قبل 1830 .. ابتعدوا عنوة عن بلدهم ولم يتمكنوا على مر العصور من العودة قبل أن تفتح لهم وزارة التضامن والأسرة والجالية الوطنية المقيمة في المهجر هذه السنة الأبواب لأبنائهم لزيارة الوطن واكتشاف معالمه التاريخية وهي المبادرة التي سمحت لقرابة 172 طفل من سوريا ، لبنان، مصر والمغرب من العودة على خطى أجدادهم في مخيم صيفي نظم بالمناسبة في أول طبعة له بالمركز الصيفي العائلي الأزرق الكبير بولاية تيبازة، ونحن على عتبة نهاية موسم الاصطياف زرنا أبناء الجالية الذين عبروا لنا عن سعادتهم وشكرهم الخاص للسلطات الجزائرية بمناسبة هذه الالتفاتة الطيبةكانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا عندما قرعنا باب المخيم الصيفي" الأطفال كلهم على شاطئ البحر إذا أردتم زيارتهم" هكذا رد علينا حارس الباب قبل أن يتم نقلنا عبر أزقة وسط الشاليهات المزينة بمختلف الرسومات والألوان الفاتحة إلى غاية ساحة واسعة تتوسطها باب حديدية تؤدي إلى الشاطئ ، الأفواج الأولى من الأطفال تعود إلى المخيم حيث ينظف الأطفال أرجلهم من الرمل عند المدخل بواسطة خرطوم المياه وبمساعدة أحد أعوان المخيم، وبالشاطئ كان لنا أول لقاء مع مدير المخيم السيد محمد تاكوش الذي يفضل نزلاء المخيم دعوته باسم "عزالدين" دعانا للتقرب من الأطفال والتحدث إليهم بكل طلاقة بعد أن عرفنا بالمرافقين الذين قدموا معهم من سوريا ومصر. وكانت "دعاء" هي أول مرافقة تحدثنا معها حيث كانت منزوية تحت إحدى الشمسيات على شاطئ البحر ، حديثها كان مفعما بالسعادة التي تكتنفها وهي بأرض الأجداد لكنها بالمقابل تعيسة بعد قرب موعد الرحيل قائلة " لطالما حلمت بزيارة الجزائر التي يتحدث عنها الوالد نقلا عن جدي الكبير، صحيح انه لم يزرها يوما لكن بسبب كثرة ما سمع عنها من جده ووالده أحبها عن بعد وهو يتابع كل الأخبار التي تتعلق بها ، ولا استطيع أن أصف لكم حجم سعادته عندما اتصلت بنا السفارة الجزائرية بسوريا لتحضير مجموعة من الأطفال لزيارة الجزائر في وقت قياسي" ، وعن الترتيبات الأولية التي أعدتها الجالية عند وصول خبر تنصيب وزارة قائمة بذاتها للتكفل بانشغالاتهم تقول محدثتنا إن القرار قوبل بارتياح كبير وسط الجالية في الوقت التي توافد فيه عدد كبير من العائلات ذات الأصول الجزائرية على الجمعيات والقنصليات لتسجيل أبنائهم وعلقوا على المبادرة بالقول " هم محظوظون أكثر من آبائهم وأجدادهم فليذهبوا لزيارة بلد المليون ونصف مليون شهيد، وليأتونا بالأخبار الطيبة من الأرض الخضراء" . طلبات بالبقاء وأخرى لجلب الأهل للاستقرار في الجزائر الساعات الأخيرة بالمخيم هي الأصعب لكل طفل استفاد من التخييم بالمخيمات الصيفية فالأصدقاء والنشاطات الترفيهية والخرجات إلى البحر تجعل الجميع يحن إليها "سأحكي مغامراتي وزيارتي لأرض أجدادي لشهور عديدة، وستكون الصور التذكارية التي أخذتها مؤنسي في سوريا " هكذا عبر الطفل خالد القادم من سوريا وهو من أب صاحب أصول جزائرية وأم فلسطينية ، في حين أكد طفل آخر قادم من لبنان " لم أتوقع يوما أن تكون الجزائر بهذا الجمال ، فالصورة الأولى التي كانت بمخيلتي أن الجزائر أرض صحراوية لكن بمجرد أن وطأت قدماي أرضية المطار كانت لي صورة مخالفة تماما وهنا تأكدت أن الأيام المعدودة التي سأقضيها بالجزائر ستكون خالدة، وقد استغللت كل الفرص لالتقاط مجموعة من الصور لأتباهى بجمال ارض أجدادي أمام أصدقائي وجيراني بلبنان " وعن اليوميات التي يقضيها أبناء الجالية بالمخيم يقول محدثنا " المبادرة سمحت لنا نحن أبناء الجالية بلبنان بالتعارف فيما بيننا حيث كان أول لقاء بمقر السفارة وفترة التخييم سمحت لنا بالتقرب أكثر والتعرف على ارض الأجداد " من جهتها أرجعت مرافقة الوفد القادم من لبنان سبب نقص عدد المشاركين في الزيارة والممثل ب 13 مراهقا تتراوح أعمارهم بين 13 و 16 سنة إلى عدم وجود جمعيات تمثل الجالية الجزائرية بلبنان علما أن المنشطة هي من سوريا بعد أن تعذر على القنصلية اختيار مرافق من لبنان. أما الوفد القادم من سوريا الممثل ب 74 طفلا وثلاثة مرافقين فقد كان السباق لاحتكاك بالأطفال الجزائريين بالمخيم حيث كانت الفرحة لا تفارقهم طوال اليوم الذي قضيناه برفقتهم ، الكل يتحدث بشغف كبير عن جمال الطبيعة الجزائرية وخضرتها ونيته في الاستقرار بالجزائر في اقرب الآجال " لقد طلبت من أبي العودة للاستقرار بالجزائر ، وسألح عليه بعد العودة إلى سوريا" هكذا أراد فادي التعبير عن إعجابه بأرض الأجداد فهو من أم فلسطينية وأب من أصول جزائرية ، يقول إنه أخذ عددا كبيرا من الصور التذكارية وتعرف عن قرب على مختلف مراحل الثورة التحريرية بعد الشروحات الوافية التي قدمها لهم وزير التضامن والأسرة والجالية الوطنية المقيمة بالمهجر السيد جمال ولد عباس خلال الزيارة الأخيرة المنظمة لصالح أبناء الجالية لمتحف المجاهد بمناسبة اليوم الوطني للمجاهد، كما كانت له فرصة استكشاف جمال الطبيعة بكل من تيبازة وشرشال والجزائر العاصمة في الوقت الذي استمتع كثيرا بالخرجات إلى شاطئ البحر، وهو الأمر الذي وافقه فيه بقية أعضاء الوفد أما السيدة فاطمة مرافقة الوفد فقد أشادت كثيرا بمبادرة الوزارة التي قربت المسافات وأعطت فرجا جديدا للجالية الجزائرية المقيمة في سوريا التي تعاني من التهميش والعزلة لعدة سنوات امتدت لغاية الجيل الثالث فليسوا هم بسوريين ولا جزائريين، لكن بعد الزيارات الأخيرة لعدة مسؤولين جزائريين وقرار تنصيب وزارة مكلفة بانشغالات الجالية يعتبر فرجا جديدا ومفتاحا لمختلف انشغالات الجالية وأبنائها الذين لا يعرفون عن بلد أجدادهم إلا القصص المتداولة بين الجالية التي أحدثت لنفسها على مر العصور والسنين أحياء خاصة بها على غرار زمورة ، مصطفى بن بولعيد، معذرة، وهي أسماء الأحياء الأصلية لهم بالجزائر. أبناء الجالية بمصر مبهورون بجمال الطبيعة لا حديث وسط الوفد القادم من مصر إلا عن جمال الطبيعة الجزائرية وتعدد المناظر الخلابة والخضرة الدائمة ونظافة المساحات العمومية والشوارع التي زاروها، كما أن موقع المخيم الذي يطل عليه جبل شنوه الشامخ أعطى صورة خلابة فضل كل طفل حفرها في مخيلته للسنوات القادمة، الموقع الاستراتيجي للجزائر جذب اهتمام الأطفال ال 32 الممثلين للوفد منهم من كانت له فرصة زيارة الجزائر في السابق ومنهم من يكتشفها لأول مرة، فكلهم من أمهات جزائريات وآباء مصريين ظروفهم الاجتماعية الصعبة وارتفاع أسعار تذاكر السفر عبر الطائرة حال دون تعرف هؤلاء الأطفال على أهلهم بالجزائر بلدهم الثاني على حد تعبيرهم، وتقول مرافقة الوفد وهي جزائرية متزوجة بمصري في ذات الشأن " إن الحالة الاجتماعية للجزائريات بمصر جد صعبة بالنظر إلى المشكل الاجتماعية، في السابق كانت الخطوط الجوية الجزائرية تخفض من أسعارها لصالح الجالية لكن بعد العدول عن القرار أصبح من الصعب العودة إلى أرض الأجداد " ، من جهته صرح المرافق الثاني للوفد وهو شاب جزائري انتقل حديثا إلى مصر لاستكمال دراساته العليا، إنه حاول قبل موعد الرحلة إعطاء لمحة بسيطة عن الجزائر فاتحا المجال ليكتشف الطفل بلده الثاني الذي لم يره يوما بمفرده من خلال النشاطات والزيارات المنظمة لصالحهم. أما الوفد االقادم من المغرب فهو الوحيد الذي لم يشعر بالتغير الكبير بالنظر إلى قرب المسافات مقارنة بباقي الدول العربية فعددهم كان 53 بين الذكور والإناث أعمارهم تتراوح بين 8 و14 سنة اغلبهم من العائلات الجزائرية التي تقطن ما وراء الحدود البرية التي حددها الاستعمار الفرنسي في سابق، فترة الاحتلال لم تسمح لهم بالعودة كما أنهم كانوا يملكون قطعا أرضية فكان من الصعب تركها ، ظروفهم الاجتماعية الصعبة لم تساعدهم على الإكثار من الزيارات إلى وطن الأجداد قبل أن تقرر الحكومة الجزائرية تسطير برنامج ثري لصالح الجالية، كما أن المكتبة المتنقلة التي خصصتها المكتبة الوطنية لصالح نزلاء المخيم كانت بمثابة النافذة الثقافية التي تعرف من خلالها الأطفال على تاريخ الجزائر وبحثوا فيها عن أصولهم الأولى قبل الهجرة إلى بلاد الشام وتابعوا عن قرب مختلف المحطات والمراحل التي مرت بها الجزائر ويبقى أملهم الوحيد هو إيجاد الأهل هنا بالجزائر علما أن أغلبهم من ولايتي البويرة وتيزي وزو فهناك منهم من لا يزال يتكلم بعض الكلمات الأمازيغية التي حافظ عليها أهلهم منذ عدة أجيال وهو ما يدل على تمسك الجالية بسوريا بأرض الأجداد. اللهجة الجزائرية ونظام التخييم أحدث بعض المشاكل في البداية وقال مدير المخيم السيد محمد تاكوش الذي أصبح صديق الكل يتقرب من كل الأطفال كل حسب سنه وطباعه جعلهم ينادونه "عز الدين" بعيدا عن الألقاب إنه وجد صعوبة كبيرة في بداية فترة التخييم حتى يفهم طباع كل أطفال يمثلون أربع دول عربية شقيقة لكل واحدة منها عاداتها ، فالمشكل الأول الذي عرقل عمل المنشطين في أول لقاء مع الوفود يتعلق باللهجة، ففي الوقت الذي كان يطلب من الطفل النوم بمصطلح "ارقد" كان هذا الأخير يفر إلى خارج الشاليه للركض لأنه فهم أن المنشط أمره ب "الركض" ، أما كلمة "روح"، " راك شامخ" " قدامك" فالأطفال كانوا يفهمونها بالمصطلح المخالف لها ، وفي ذات الشأن أكد المدير أن الأمر يعود أساسا إلى عدم التحضير المسبق للمنشطين كون الزيارة نظمت في وقت قياسي، مشيرا إلى أن مثل هذه المشاكل سيتم تداركها مستقبلا، في حين وجد منظمو المخيم صعوبة في تكييف الأطفال مع النظام الداخلي إذ تعودوا على السهر لساعات متأخرة من الليل في منازلهم ليصحوا متأخرين في اليوم الموالي في الوقت الذي يقضي النظام الداخلي بالنوم مبكرا قبل أن يرن جرس النهوض على الساعة السابعة صباحا من كل يوم، أما من ناحية الإطعام فقد وجدنا الأطفال يحنون لبعض الأكلات الشعبية لسوريا ومصر خاصة تلك الدسمة منها، لكنهم بالمقابل وجدوا طعما جديدا ونكهة متميزة في الأكلات المحضرة بمطبخ المخيم والتي يقول المدير عنها إنها محضرة على أساس الخضر الطازجة، مشيرا إلى أنه تم تعديل نظام الأكل بعد أن اكتشف حب الأطفال لطبق الكسكسي بالخضر، لذلك تقرر تقديمه مرتين في الأسبوع بالإضافة إلى السلطة والفواكه الموسمية، في حين فتح المجال لهم لاقتناء بعض الحلويات والمشروبات الغازية من المحال المقابلة للمخيم وهو ما استحسنه الجميع، من جهة أخرى أشار المدير إلى أن عددا كبيرا من أقرباء الأطفال يزورون المخيم يوميا وفي ساعات متفاوتة وخلافا لنظام الداخلي الذي يحدد الزيارات ليوم نهاية الأسبوع وفي ساعات محددة تم فتح المجال لهذه الزيارات لكن بالمقابل منع اصطحاب الأطفال إلى خارج المخيم وهو ما أزعج الزوار والأطفال انفسهم وهو حال المراهق "جول" وابن خالته "داني" من لبنان حيث تحدثنا مع خال المراهقين الذي كان عند المدخل يحاول استسماح المدير لاصطحاب ولدي أختيه للأكل خارج المخيم ، وهو ما رفضه المدير الذي اقترح بالمقابل أن يجلب لهم الأكل إلى المخيم . الساعات الأخيرة من المخيم صعبة على الجميع الذي دخلوا في سباق مع الزمن لاستكمال كل النشاطات المقترحة والاستمتاع بجمال الطبيعة ولذات الغرض تقرر تنظيم خرجتين إلى شاطئ البحر بالإضافة إلى مضاعفة الخرجات السياحية التي قادت الأطفال إلى المتاحف والمواقع الأثرية لولاية تيبازة بالإضافة إلى زيارة حديقة الحيوانات والتسلية لبن عكنون ومقام الشهيد .... وعلى أمل العودة مجددا لأرض الأجداد واقتراح تنظيم زيارات مماثلة لفئة المسنين من أفراد الجالية تركنا الأطفال عند مدخل المخيم في شكل مجموعات يتجاذبون أطراف الحديث ويتبادلون الصور التذكارية.