مائة وأربعون مليون دولار! هذا المبلغ الخيالي هو السعر الذي بيعت به لوحة بابلو بيكاسو الشهيرة "نساء الجزائر" التي أنجزها عام 1955. والذي أهمني في هذا المبلغ إنما هو الجزائر لا غير. حقا، هو مبلغ لم تبلغ شرأوه أية لوحة تشكيلية أخرى منذ أن وجد الفن التشكيلي على الإطلاق. وبذلك يتربع بابلو بيكاسو على القمة في هذا الشأن مثلما تربع على الفن التشكيلي منذ نهايات الحرب العالمية الأولى. قبله، أي في القرن التاسع عشر، كان الفنان التشكيلي الرومانسي أوجين دولاكروا قد أنجز عددا من اللوحات التي استلهم مواضيعها من زيارته للمغرب وللجزائر بعد هبوط القوات الفرنسية الاستعمارية بأرضنا. وكان من بينها لوحته الشهيرة "نساء الجزائر في ديارهن"، وهي اللوحة التي كانت محل دراسات جمالية منذ عام 1832. وقد ظلت هذه اللوحة محط أنظار الفنانين التشكيليين والنقاد ومؤرخي الفن التشكيلي بل، ورأى فيها البعض أنها تمثل مرحلة حاسمة في الفن التشكيلي لأنها علامة فاصلة بين المعايير الكلاسيكية التي كانت متبعة في عصره، والمعايير الجمالية الأخرى التي بدأت تولد على أيدي فنانين من طراز "كوربيه" و«مانيه" و "شاسيريو" و "فرومونتان" وغيرهم. وجاء بيكاسو بحسه الفن الخارق، فسار حذو "دولاكروا"، لكنه استطاع أن يتميز عنه بتشكيلاته الهندسية العجيبة، وبألوانه البسيطة. وكان أن تناول نفس الموضوع عام 1955، وطلع على دنيا الفن التشكيلي برؤية جديدة أذهلت كل من يهتم بالفن التشكيلي عبر العالم أجمع. والذي يعنيني في هذا النطاق إنما هو الجزائر مثلما سبق أن قلت. هاهي الجزائر ترتحل على متن الفن التشكيلي تماما مثلما سبق لها أن ارتحلت بريشة بيكاسو عام 1960 حين أنجز لوحته الشهيرة "جميلة بوباشا" المناضلة الجزائرية المعروفة أثناء الثورة. كنت أتمنى أن أرى في متاحفنا صورة مستنسخة عن لوحة بيكاسو هذه، أي "نساء الجزائر"، على سبيل تنوير أبناء الجيل الطالع. وكنت أتمنى أيضا أن أرى نسخة منها في كتبنا الدراسية، خاصة منها كتب طلاب الثانويات، بل، وطلاب الجامعات. إذ، من يعرف تاريخ هذه اللوحة وقيمتها؟ عندما أنجز بيكاسو لوحته الشهيرة "جرنيكا" عام 1936 عن الحرب الأهلية الإسبانية، جاء ضابط ألماني يسأله: من، يا ترى، أنجز هذه اللوحة؟ فما كان منه سوى أن أجابه بقوله: أنتم الألمان! وهو يعني بذلك أن الطائرات الألمانية هي التي قنبلت مدينة "جرنيكا" عام 36 وجعلتها قاعا صفصفا، وذلك باتفاق تام ما بين هتلر والجنرال فرانكو. والآن، ألا يحق لي كجزائري أن أطرح التساؤل التالي: أوليست هذه اللوحة التي أنجزها بيكاسو الذي كان عاشقا للوحات دولاكروا جزءا منا، ويحق لي أن تكون لي نسخة منها في وجداني بحكم أنها جزء من التاريخ الذي أنتمي إليه؟ طبعا، أنا لا أطالب السلطات الثقافية في الجزائر بدفع المبلغ الخيالي الذي بيعت به هذه اللوحة، ولكنني أشعر بأن جزءا من وجداني ارتحل إلى جهة أخرى، وأن علي أن أترسم خطاه كلما تعلق الأمر بهذه الجزائر.