قدم المجاهد جلول باغلي خلال ندوة خاصة نظمتها مديرية المجاهدين لولاية بومرداس، بعنوان "دور الهيئة التنفيذية المؤقتة في استفتاء تقرير المصير"، إحياء للذكرى الواحدة والستين لعيد الثورة التحريرية، محاضرة قيّمة حول تاريخ إنشاء هذه الهيئة والمهام التي أنيطت لها، سواء قبيل الاستقلال أو بُعيده. وضمّن شهادته الحية لهذه المحطة الهامة من تاريخ الثورة التحريرية بالكثير من المواقف التي مازالت تشهدها ذاكرته التاريخية، وكان كذلك لا يتوان في طلب الحديث، بعد محاضرات أخرى، لإضافة أية معلومة جديدة تخطر على باله، ولم يذكرها في مداخلته، أو حتى تصحيح معلومة أو تاريخ أو موقف عايشه مع فطاحل الثورة من القادة والمجاهدين. وفي بداية محاضرته الارتجالية المطولة، ذكّر المجاهد بأبرز المحطات التي سجلها التاريخ الحديث للجزائر بداية من 5 جويلية 1830، تاريخ احتلال فرنسا للجزائر، إلى تاريخ تأسيس الحكومة المؤقتة للجزائر المستقلة بمنطقة الصخرة السوداء (بومرداس حاليا) في سبتمبر 1962، مرورا بأبرز المقاومات الشعبية التي قامت من أجل طرد المستعمر الفرنسي، من مقاومة الأمير عبد القادر سنة 1847 والتي لم تنته بنهايتها، بل كانت بعدها مقاومات شعبية مازال التاريخ يذكرها، مثل مقاومة المقراني وبوعمامة ولالا نسومر وغيرهم من فطاحل المقاومين المستبسلين. واسترسل المجاهد، مؤكدا أن طريقة المقاومة الشعبية الجزائرية تغيرت في بداية القرن العشرين، حيث بدأت المقاومة تتخذ شكلا آخر، مع تأسيس أحزاب سياسية أخذت على عاتقها مهمة النضال السياسي لطرد المستعمر من البلد، ليكون حزب مصالي الحاج نجم شمال إفريقيا، أول حزب يتأسس في ظل التواجد الاستعماري، ليليه أحزاب أخرى صنعت لنفسها مسارا سياسيا، وإن كان يختلف في بعض الرؤى، إلا أن الهدف الأسمى كان استقلال الجزائر، ومن أجل ذلك تشكلت لجان لتعبئة الشعب الجزائري برمته ليتوحد في صف واحد وكلمة واحدة، فتم إذن تأسيس حزب الشعب الجزائري (1937) وجمعية العلماء المسلمين (1931)، "إلا أن المقاومة السياسية لم تؤت ثمارها بدليل وقوع مجازر 08 ماي 1945 الدامية، مما جعل الشعب الجزائري يقتنع بأن الحل الوحيد ضد الاستعمار الغاشم هو العمل العسكري، يقول المحاضر مواصلا، وبهذا تشكل جيش التحرير الوطني الذي وبوسائل بسيطة للغاية قرر مواجهة عساكر فرنسا بكل وسائلها العسكرية واللوجستية، فتم التقرير لاندلاع الثورة التحريرية في الفاتح نوفمبر بفضل تعبئة الشعب ووقوفه جنبا إلى جنب، من أجل انتصار قضيته، وبعد سنة واحدة من اندلاع الثورة، أي في عام 1955، بدأ ديغول (رئيس فرنسا آنذاك) يقتنع بأن استقلال الجزائر بات وشيكا". نضج الوعي السياسي أرغم العدو على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وخلال السنوات الأولى للكفاح المسلح ونشأة حزب جبهة التحرير الوطني، بدأ العمل السياسي ينضج أكثر فأكثر ومعه اتضحت معالم الاستقلال، فكانت المقاومة السياسية، خاصة خارج الجزائر، تزداد اتساعا لإسماع العالم بالقضية الجزائرية، ليزداد بالموازاة العمل المسلح، ويثمر المسار العسكري والسياسي إجلاس العدو الفرنسي على طاولة المفاوضات التي أثمرت اتفاقا مبدئيا على منح الاستقلال للجزائريين، إلا أن الطرف الفرنسي بدأ يراوغ وفرض إجراء استفتاء شعبي للبت في هذه النتيجة، "لكن هذا الاستفتاء كان لا بد له من لجنة تنظمه، فتم إنشاء الهيئة التنفيذية المؤقتة لاستفتاء تقرير المصير التي كانت تضم 12 عضوا، منهم 3 فرنسيين و9 جزائريين. كان ذلك يوم 18 مارس 1962 بمنطقة ‘الروسي النوار' أي الصخرة السوداء (بومرداس حاليا)، وكسلطة وطنية كانت مهمتها الأساسية نقل سلطات السيادة إلى الجزائر المستقلة"، يشرح المحاضر ليتوقف قليلا، ثم يستطرد شارحا؛ "مقر الهيئة المؤقتة كان في الأول بمقر الولاية العامة بمقر الحكومة الحالي، ليتحول بعدها إلى ‘فيرمة الكولون فأمان بالصخر الأسود، والتي أفضت بعدها إلى تأسيس مقر الحكومة المؤقتة الأولى للجزائر المستقلة، والتي اعترف شارل ديغول بها كما جاء في الوثيقة"، يوضح المجاهد. ومواصلة لمحاضرته، يشير المجاهد جلول باغلي إلى أهم أعمال الهيئة التنفيذية المؤقتة في استفتاء المصير، فقال بأنه كان لها ثلاثة أعمال كبرى وأساسية، يأتي على رأسها؛ حفظ الأمن والاستقرار وضبط الأمور الإدارية على مستوى التراب الوطني بمقدرة وكفاءة عالية، ووجدت المساعدة الكاملة، يقول، من مناضلي جبهة التحرير الوطني لأداء مهامها في مختلف المجالات. ويأتي من بعدها، مهمة محورية تتمثل في الإعداد للاستفتاء العام الذي، يقول المجاهد، أنجزته بكفاءة ومقدرة عاليتين تعكسان مدى تعطش الجزائريين قادة وشعبا للاستقلال، حيث حددت الهيئة يوم الفاتح جويلية 1962 موعدا لإجراء الاستفتاء على تقرير المصير ونصبت لأجل ذلك لجان الإشراف والفرز ووضعت رزنامة خاصة بالعملية. وبعد جهود مضنية، تمكنت الهيئة من وضع حد لإرهاب وتخريب منظمة الجيش السرية الفرنسية، وتوصلت معها إلى وضع حد للتنقل الجماعي للسكان، خاصة هجرة الجزائريين من الأرياف إلى المدن، وكذلك تسوية التخريب الأعمى للمؤسسات العمومية، بعد تأكد الفرنسيين من حتمية استقلال الجزائر. وبهذا، تكون الهيئة المؤقتة قد قامت بوضع نواة الإدارة الاقتصادية الجزائرية في شكل مديريات للتخطيط والصناعة والمالية والأسعار والطاقة والمكتب الجزائري للبترول والهيئة الصحراوية، ووضعت نصوصها التأسيسية والتنظيمية وجمعت عددا من الإطارات المتخصصة، لعبوا دورا هاما في الحياة الاقتصادية للبلاد، "وهذا بجهد كبير وتحد أكبر لأن اتفاقيات إيفيان أجبرت القادة على ضرورة إجراء الاستفتاء بعد 3 أشهر فقط من انتهاء المفاوضات، وهو ما جعل القادة الجزائريين يواجهون تحديات كبيرة في تنظيم الاستفتاء وتعيين مراكز الاقتراع وغيره من الأمور الإدارية الأخرى المصاحبة لكل عملية اقتراع"، يوضح المجاهد، مذكرا ضمن حديثه المستفيض عن هذه الهيئة، كونه كان أحد مسؤوليها، حيث تقلد منصب مسؤول النشاط الثقافي لدى الحكومة المؤقتة التي تشكلت أسابيع قليلة بعد انتهاء مهام الهيئة المؤقتة، وذكّر بأهم نتائج استفتاء تقرير المصير وقال بأنه في الثاني من جويلية 1962، شرع في فرز الأصوات وكانت النتائج لفائدة الاستقلال، مثلما أكدته اللجنة المكلفة بمراقبة سير الاستفتاء صباح الثالث جويلية 1962، إذ قدر عدد المسجلين آنذاك بأكثر من ستة ملايين و549 ألف ناخب موزعين على 15 مقاطعة، وكانت النتيجة مذهلة، حيث عبر 99.72% من الناخبين ب(نعم) للاستقلال مقابل 16.53 % صوتوا ب(لا)، وطبقا للائحة الهيئة المؤقتة لتقرير المصير فإنه كان لزاما أمام هذه النتيجة أن تعترف فرنسا فورا باستقلال الجزائر، وأن يتم النقل الفوري للسلطات بين الجهتين، وبناء على ذلك أعلنت نتائج الاستفتاء يوم السبت 3 جويلية 1962، وبعث الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى السيد عبد الرحمان فارس رئيس الهيئة المؤقتة التنفيذية في استفتاء تقرير المصير، رسالة تحمل الاعتراف باستقلال الجزائر، وتم اعتبار يوم الإثنين 05 جويلية 1962 التاريخ الرسمي لاسترجاع السيادة الوطنية التي سلبت في ذات اليوم من سنة 1830. وفي آخر محاضرته، يشير المجاهد جلول باغلي إلى أن مهام الهيئة التنفيذية المؤقتة في استفتاء تقرير المصير "كان من المفروض إنهاء مهامها بمجرد الإعلان عن نتائج الاستفتاء واستقلال الجزائر، إلا أنها أكملت عملها إلى غاية سبتمبر 1962، أي بعد الإعلان عن ميلاد الحكومة المؤقتة ورئيسها أحمد بن بلة". جدير بالذكر أن المجاهد جلول باغلي من مواليد عام 1929 بتلمسان، عضو مؤسس للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، حيث شغل منصب نائب رئيس فيها، ثم تقلد عدة مناصب في الحكومة المؤقتة، أهمها مسؤول النشاط الثقافي، وبعد وقف إطلاق النار، تقلد منصب مدير ديوان الشيخ بيوض، عضو الهيئة التنفيذية المؤقتة، بعد الاستقلال، عين مديرا عاما للمعهد الجزائري للبترول من عام 1965 إلى سنة 1985، حيث ساهم في تأسيس المعهد، ثم عين أمينا عاما لوزارة الصحة، بعدها كلّف بالمهام لدى رئيس الحكومة الأسبق السيد أحمد غزالي، وبعدها عين وزيرا للتكوين المهني في حكومة، السيد بلعيد عبد السلام سنة 1992، ثم عين في الأخير رئيسا للهلال الأحمر الجزائر سنة 2005. نذكر كذلك أن اليوم الدراسي المنظم بالمركز الثقافي الإسلامي لمدينة بومرداس، إحياء لاندلاع ثورة نوفمبر 1954، حمل شعار "أنا نوفمبر الحرية من أجل العهد مع البناء". وقد حضره عدد من المجاهدين إلى جانب طلاب في التاريخ وحتى شعراء وجدوا في تاريخ الجزائر مادة دسمة للكتابة الشعرية أو النثرية.