تتجه المعطيات والمؤشرات المتعلقة بالتشريعيات القادمة، نحو تأكيد تغيير المشهد السياسي في الجزائر بعد 4 ماي القادم، باتجاه خارطة جديدة تستجيب لرغبة كان قد عبّر عنها رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، خلال المراحل الأولى من توليه سدة الحكم في 1999. تستمد الخارطة السياسية المحتملة بعد الرابع ماي، دعائمها وبوادر تجسيدها من التجربة والنّضج السياسي الذي بات يميّز الممارسة الحزبية والديمقراطية بشكل عام في البلاد، بعد مرور 30 سنة من التعددية، وكذا من نتائج الإصلاحات السياسية التي خطتها الجزائر بمبادرة من الرئيس بوتفليقة وعمّقها دستور 2016، فضلا عن المعطيات الميدانية التي يميّزها تكتل الإسلاميين ونجاحهم في اجتياز امتحان القوائم الموحدة بامتياز، رغم بعض الخلافات التي لم تبطل المسعى ولم تؤثر عليه.نجاح الإسلاميين في رص صفوفهم على الأقل حاليا، من خلال تحالفاتهم سيدفع أحزاب التيارات الوطنية والديمقراطية واليسارية إلى التحالف من أجل إقامة جبهات قوية تمكنها من تشكيل الأغلبية واعتراض تقدم التيار الإسلامي. قبل نحو 4 أيام فقط من انتهاء فترة معاينة القوائم الانتخابية من قبل المصالح الإدارية والتي ستفضي إلى تأكيد القوائم التي ستشارك بشكل فعلي في التشريعيات القادمة، أبان الامتحان الأول الذي واجهته الأحزاب السياسية في الجزائر وكذا القوائم الحرة، في إعداد القوائم لضمان حضورها في المعترك الانتخابي، أن العملية لم تعد بالبساطة التي كانت عليها في السابق بالنسبة لكافة الأحزاب السياسية، حيث اصطدم العديد منها بصلابة غربال التوقيعات التي لم تتمكن بعض التشكيلات اجتيازه على مستوى كافة الولايات معلنة بالتالي رميها المنشفة، والاستسلام للواقع وانتظار موعد المحليات القادمة لمعاودة المحاولة. في المقابل استطاعت بعض الأحزاب السياسية الفتية (5 أحزاب) حسب المعطيات الأولية التي قدمتها وزارة الداخلية والجماعات المحلية، من تخطي حاجز التوقيعات بالدخول في تكتل أطلق عليه اسم «فتح» (الحزب الوطني الجزائري، الحزب الوطني الحر، حركة الوطنيين الأحرار، حزب النور الجزائري وحزب الشباب الديمقراطي) وهو التكتل الثالث الذي سيخوض الانتخابات التشريعيات القادمة، بعد تكتلي الإسلاميين الممثلين في الاتحاد من أجل النهضة والعدالة والبناء وتكتل «حمس والتغيير». تكتلا الإسلاميين المحتمل جدا أن يتوحدا في قطب واحد بعد التشريعيات القادمة، طبقا لتنبؤات العناصر الفاعلة فيهما، أصبح يحسب لهما أكثر من حساب من قبل المنافسين في التيارات الأخرى خاصة في ظل توجه مختلف القراءات السياسية إلى توقع تراجع الأحزاب التقليدية التي اعتادت السيطرة على المشهد الانتخابي والسياسي بشكل عام في الجزائر، خلال الموعد الانتخابي القادم. هذا الطرح الذي قدمه كل من رئيس الجبهة الشعبية الجزائرية عمارة بن يونس، الذي أبرز قدرة الإسلاميين على التحالف في وقت تخلّف فيه الديمقراطيون الجمهوريون والوطنيون المطالبون حسبه بالتكتل بعد الانتخابات لتشكيل قوة سياسية في البرلمان، تنبثق عنها الحكومة القادمة، عززته تصريحات أخرى أطلقها ابن الشهيد عميروش نور الدين أيت حمودة، مترئس قائمة البديل المواطن الحرة بتيزي وزو، حينما توقع أن يكون الموعد الانتخابي القادم صفعة للأحزاب التقليدية وبشكل خاص في منطقة القبائل، لافتا في نفس الوقت إلى أن النتائج المتوقعة لهذه التشريعيات ستفرض على الأحزاب التقليدية الخروج من سباتها.. التخوف والترقب الناتجان عن نجاح تحالف أحزاب التيار الإسلامي، وخيبة البعض ممن راهنوا على انفجار هذا التحالف عند اختبار إعداد القوائم الموحدة، والذي لم يحدث بفضل ثبات عناصر وقيادات هذا التيار على مبادئ وحدتها، وخاصة منها مبدأ الانضباط والتنازل لصالح الوحدة، في وقت عرفت فيه أحزاب أخرى على غرار الحزب العتيد حالات فوضى وغليان بلغ حالات من العنف بين المناضلين أودت بحياة أحدهم بمحافظة تيارت، ولّدت سؤالا جوهريا يرتقب أن يتسع صداه خلال مرحلة الحملة الانتخابية، واقتراب موعد الحسم وهو «ماذا لو فاز الإسلاميون في التشريعيات القادمة؟» الحقيقة أن التجربة التي عرفتها الجزائر مع بداية مرحلة التعددية، وكذا المتغيرات الحاصلة في العديد من الدول العربية والإسلامية ومنها دول الجوار التي عرفت فوز الإسلاميين الذين كادوا يجتاحون ويحصدون كل المقاعد، بات عاملا وحافزا يحرك «إسلاميي الجزائر» ويقوي شهيتهم في العودة من الباب الواسع إلى حكم الأغلبية أي السلطة التشريعية، خاصة بعد أن طوّروا خطابهم وجنحوا أكثر إلى الاعتدال. حافز الإسلاميين وتحركاتهم حاليا عبر الوطن تكمن في حمل شعارات «ليس مهما من يكون على رأس قوائم التحالف، ولكن المهم الفوز يوم 4 ماي القادم». قد يكون هذا الحافز منبّها للأحزاب الوطنية والديمقراطية واليسارية من انتصار الإسلاميين، وتخوفا مشروعا منها إن تمت قراءته في إطار اللعبة السياسية النّزيهة. فهذه الأحزاب الأخيرة مطالبة بالتحرك قبل صفارة الحكم للدخول في تكتلات سياسية، تمكنها من تشكيل قوة برلمانية موازية تقف في وجه زحف محتمل للإسلاميين. ما سيفضي بنا في الأخير إلى إعادة رسم الخارطة السياسية في البلاد بشكل يعطي قوة أكبر للتشكيلات السياسية التي تشترك في المبادئ والأهداف، ومن ثمة التأسيس لقطبية فعلية من 3 أو 4 أقطاب كبرى تتنافس بالبرامج والأفكار للوصول إلى السلطة. لقد سبق ل«المساء» أن قدمت هذه القراءة التي سيحقق تجسيدها على أرض الواقع إحدى أمنيات رئيس الجمهورية، الذي كان قد عبّر عنها في بداية تسييره لشؤون البلاد في 1999، حيث لم يخف الرئيس حينها في رؤية المشهد السياسي في الجزائر، يتعزز وينتظم بشكل أكبر من خلال بروز أقطاب سياسية كبرى، تتداول على الحكم وتتنافس على خدمة الوطن ببرامج فاعلة على شاكلة التيارات السياسية الكبرى في فرنسا أو الأحزاب السياسية العريقة في بريطانياوالولاياتالمتحدةالأمريكية، معتبرا ذلك دعما للممارسة الديمقراطية الحقة التي يتنافس فيها المتنافسون على المصالح العليا للدولة وفق قواعد وشروط النزاهة والمصداقية المستمدة من خيارات الشعب الأساسية. وتشكل هذه الأقطاب سينهي بالتأكيد فوضى الأحزاب ويصد تشتت القدرات ويجمع الكفاءات. الطرح نفسه الذي تناولته «المساء» في موضوع سابق في ديسمبر الماضي، أكده مستشار رئيس الجمهورية كمال رزاق بارة، في تدخل له عبر أمواج الإذاعة، حيث أشار إلى أن الانتخابات التشريعية المقبلة ستسهم في ترشيد المشهد السياسي من خلال إعطاء الفرصة للمواطنين لاختيارات واضحة «من بين التوجهات الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة التي ستنبثق عن هذا الموعد الانتخابي»، ويتعلق الأمر حسب السيد رزاق بارة بالخيار الإسلامي والخيار الوطني والخيار اليساري والخيار المهتم أكثر بمسائل الهوية». من هذا المنطلق توقع مستشار رئيس الجمهورية أن تسهم الانتخابات التشريعية القادمة في تعزيز الممارسة الديمقراطية التشاركية في البلاد، بالنظر إلى المكاسب الجديدة التي تحققت للمعارضة السياسية والتي سيكون بإمكانها إخطار المجلس الدستوري، أو طلب فتح نقاش حول مسائل تتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية، معربا بالمناسبة عن ارتياحه الكبير لمشاركة مجموع التوجهات الممثلة بالأحزاب السياسية في هذه الانتخابات التي تتيح للشعب الجزائري عرضا سياسيا موسعا ومتنوعا من خلال مترشحين يمثلون الأجيال الجديدة. بالفعل فإن الخيارات التي انتهت إليها غالبية الأحزاب السياسية التي اختارت الوجوه الجديدة، وحرصت على معيار الكفاءة والمستوى التعليمي العالي، يوحي بأن البرلمان القادم سيمتاز عن سابقه من حيث نوعية أعضائه ومستواهم العلمي، ما من شأنه إضفاء مصداقية أكبر على العمل النيابي وعلى طبيعة هذه المؤسسة التشريعية الهامة بشكل عام. حتى أن مصادر قيادية من الحزب العتيد أكدت ل«المساء» أول أمس، بأن الافلان يسعى إلى تدارك الخطأ الذي وقع فيه في 2012، والمتمثل في إدراج مرشحي «الدقائق الأخيرة» دون غربلة وتمحص في مستواهم العلمي، ما أفضى إلى إيصال نواب دون المستوى المطلوب إلى إحدى أهم المؤسسات التشريعية في البلاد. مسعى تحسين التمثيل النيابي يشكل غاية تشترك فيها كافة الأحزاب السياسية الواعية بأهمية «رفع المستوى» في الهيئة التشريعية الوطنية، خلال المرحلة الجديدة التي دخلتها البلاد، لاسيما وأن الواقع المعيش يفرض على الجزائر التجاوب بجدية وصرامة مع التحديات الكبرى التي تعترض البلاد على مختلف المستويات. بينما تجد المرحلة السياسية التي يرتقب أن تدخلها الجزائر بعد التشريعيات دعائمها وسبل تحقيقها ونجاحها في الإصلاحات العميقة التي خطتها الجزائر بمبادرة وإشراف خاص من القاضي الأول في البلاد، وكذا في النّضج السياسي الذي بلغته الأحزاب السياسية بعد مرور قرابة 30 عاما من بداية عهد التعددية الحزبية في الجزائر.