جاءوا الى العاصمة من مختلف الولايات بحثا عن ذواتهم التي افتقدوها بمجرد سماعهم نبأ إصابتهم باحد الأنواع السرطانية، فيبدأ صراعهم النفسي مع المرض قبل الشروع في العلاج الاولي ضد الألم، الذي تليه مراحل جد صعبة كالعلاج الكيمياوي الذي يزيد من حدة المخاوف والوساوس، ويفرض عليهم التفكير في الموت تارة والاستسلام للمرض تارة أخرى لاسيما بعد ظهور الاعراض السلبية لهذا العلاج على أجسادهم وملامحهم، كالنزيف والقيء وفقر الدم أو سقوط الشعر وشحوب الوجه والهزال والشعور بالإحباط النفسي. إنها رحلة حياة نساء وأطفال قمنا بزيارتهم في دار »الأمل« لمرضى السرطان التي باتت تسهر على التكفل النفسي بالمرضى، بالاضافة إلى قيامها بمختلف الإجراءات لصالحهم من اجراءات إدارية على مستوى مركز مكافحة الامراض السرطانية »بياروماري كوري« أو جلب الأدوية بالمجان أو شرائها بعد الحصول على أموال من ذوي البر والاحسان، أو جلب أجهزة حركية مثل الكراسي المتحركة، أو نقل المرضى لإجراء مختلف الفحوصات بالأشعة لدى الخواص في حال تعطل مصالح الفحص الإشعاعي بالمستشفيات، أو انعدام نوع من الاختبارات على مستواها مثل ذلك الاختبار الذي اعتادت الجمعية أن تجريه على مرضاها لدى البروفيسور بايسي في »الدويرة« لانعدامه بالمستشفيات.
"أم جنات" حالة تحمل الأمل للمرضى
وشيدت دار »الأمل« من طرف جمعية آمال لمرضى السرطان منذ ما يقرب السنتين من أجل التكفل المعنوي والمادي بالمرضى المعوزين من النساء والأطفال وتشجيعهم على تقبل المرض والبدء في العلاج مع الاستمرار فيه دون استسلام حتى الشفاء أو الموت. وتضم كل المرافق الضرورية لإقامة المرضى من مطبخ مجهز وقاعة لتناول الوجبات تتسع ل12 شخصا، ثلاث غرف للنساء، وغرفة للأطفال تتسع لثلاثة أسرة تضم أشكالا وألوانا، لعب وقصص تتلاءم مع سنهم، بالاضافة الى أفرشة لأمهاتهم في حال تواجدهم معهم. كما توجد قاعة للاستقبال تمكن النساء من زيارة مرضاهم ومرحاض وبيت للاستحمام، وهي الدار التي وصفتها لنا بعض المريضات بأنها كفيلة بتأمين حياتهن طيلة مدة العلاج التي قد تناهز السنة أو أكثر، وقد وجدن فيها راحتهن ورغبتهن في العلاج قصد الشفاء، لاسيما وأن فيها مشرفة تسهر على مراقبة حالاتهن والحرص على إطعامهن، وجبات تتناسب وظروفهن الصحية تكفلها بكل جوانب النظافة بما فيها تنظيف ملابسهن، واعانتهن على تناول الدواء، بل إنها تزودهن بعناية نفسية تجعلهن يأملن في الشفاء. وهي تضرب لهن المثل في كل مرة بحالة »أم جنات« ذات السابعة والثلاثين عاما التي كانت في حالة ميؤوس منها، بعد أن اكد الاطباء لزوجها بأن شفاءها من سرطان الثدي أمر مستحيل، غير أن ارادة الله كانت أقوى، وبعد أن دخلت دار المرضى بدأت بالعلاج وكان إيمانها قويا وشفيت بعد أشهر، وأنجبت بنتا سمتها جنات والتي تبلغ من العمر اليوم 15 شهرا، فانقلب الحزن الى فرح والخوف الى شجاعة. وحالة »أم جنات« أكدت بأن الشفاء قضاء من الله وعلى الانسان ان يبدي اجتهاده وطموحه من خلال العلاج المنتظم دون توقف، وهي تحث كذلك على الاستعانة بقراءة القرآن الكريم. وقد أبدت لنا بعض النساء في دردشة معهن أثناء تواجدنا بدار المرضى أن هذه الدار تشكل الخطوة الأولى لتخطي غياهب المرض من فزع وخوف، والشروع في ديناميكية البحث عن الشفاء بدءا بالعلاج الاولي، وهذا بعد ان وجدن العناية النفسية الكاملة والدعم المعنوي والمادي من قبل الجمعية التي تواصل حركيتها من اجل إسعادهن او على الاقل زرع بصيص امل في نفوسهن ورسم ابتسامة على محياهن تنم عن أملهن في البقاء خصوصا وأنها توليهن رعاية كبيرة. فأعضاؤها تبدو عليهم آثار التضامن النفسي من تألم لدى ألم المرضى، وفرح لدى شفائهم أو لمجرد ابتسامة عابرة مما يزيد من تعلق المرضى بالجمعية حتى بعد الشفاء، إذ لا ينقطعون عن الاتصال الهاتفي بأعضائها اعترافا منهم بالجميل، بل إنهم يساهمون من بعيد في طمأنة المرضى مع تشجيعهم على العلاج والتحلي بالصبر.
معاناة من المرض .. وأخرى من آثار العلاج
وأكدت لنا بعض المريضات أن الاضطرابات النفسية الناجمة عن الاوضاع الاجتماعية المتردية لبعض المريضات كانعدام المال او السند المعنوي من جانب الزوج، الأسرة أو العائلة لاسيما وأنهن قادمات من ولايات أخرى، قد تتسبب في توقف بعضهن عن تلقي العلاج، فيستسلمن للمرض مما يجعل شفاءهن مستحيلا، إذ يتوجب عليهن البدء بالكشف عن حالاتهن مع المرض ليبدأن بالعلاج من جديد، وما يحدث في هذه الحالة هو تضاعف الآثار السلبية للعلاج. أما اللائي يزاولن العلاج بصفة منتظمة تتوافق مع حالات الكشف ووصفات الاطباء فقد اطلعننا على معاناتهن التي تزيد حدتها منذ البدء بتلقي المصل وتتضاعف مباشرة بعد تلقي العلاج الكيمياوي، وترى إحدى المريضات وهي في عقدها الرابع أن المرض يمكن أن ينشأ من التأثيرات النفسية التي لها الاثر السلبي على الجسم، كعدم اهتمام الشخص بالتغذية السليمة ومختلف أشكال الوقاية والرعاية الصحية. رغم ذلك تبدو السيدة المريضة صبورة وراضية بالقدر، ولو أنها لا تستطيع مقاومة آلام آثار العلاج الكيمياوي الذي سبب لها الضعف والهزال، الدوار والرجفة. للعلم فإن الدواء يسبب آلاما حادة عديدة، إضافة إلى النزيف والاصابة بالحساسية، والقيء الذي يدوم من ثلاثة ايام الى اسبوع، بالاضافة الى اعراض أخرى كألم العظام وسقوط الشعر والرموش والحواجب. وذكرت لنا سيدة مصابة بسرطان الثدي أنها تعاني من انعدام شهية الاكل، وشبهت لنا مرحلة العلاج الكيمياوي بمرحلة الاصابة بالوحم لدى المرأة الحامل، إذ تصبح حاسة الشم قوية لدرجة الشعور بالغيثان ورفض كل انواع المأكولات، واسترسلت تقول: "رغم ذلك علينا ان نأكل كي نقي أنفسنا من مرض فقر الدم الذي يؤثر على علاجنا سلبا".
الليل... الوجه الآخر لمعاناة تحملها الذكريات عندما يسدل الليل ستاره وتلجأ كل مريضة الى سريرها تبدأ قصة أخرى مع الألم، فمن المعاناة مع مختلف الاعراض الجانبية للعلاج الكيمياوي الى الاعراض النفسية كالشعور بالوحدة والخوف الناجم عن التغير المفاجئ في مجرى الحياة. فهذه أم تفكر في ابنتها الصغرى صاحبة الثلاث سنوات والعبارات الاخيرة بينهما قبل الوداع ووقعها على الأذن، فهي التي حطت رحالها بحثا عن الشفاء منذ ما يقرب السنة، وفي لحظات التذكر هذه ترتوي منشفة بأكملها بدموع مصحوبة بالآهات، ويقشعر بدنها ويتصدع قلبها ويجف ريقها، وهذه آنسة تعيش على هاجس انكشاف سر اصابتها بالسرطان في محيطها السكني أو المهني في أية لحظة فتصاب بالذعر والهلع وكأنما ثمة شبح يطاردها بعصاه الغليظة، وهي التي قطعت مسافة ازيد من 400 كلم قدوما الى العاصمة مدعية أنها قادمة لاجتياز مسابقة الماجستير التي ظلت حلما يراودها، وقد حرمها من الحلم المرض، فأصبحت تنظر الى مستقبلها على أنه مرهون بالشفاء وبما يخفيه القدر، تنهدت الآنسة وهي تحدثنا واغرورقت عيناها بالدموع وأجهشت بالبكاء ثم استسمحتنا لحظة ومسحت دموعها وهي تنظر الى المصحف الشريف الذي لا يفارقها، ورفعت رأسها الى السماء وهي تقول »أشكر الله الذي منحني ثقافة واسعة وأوجدني في هذه الدار بدلا من المجهول، تصوروا أنه لا أحد زارني من أقاربي منذ أشهر قضيتها هنا وكأنني عندما أصبت بالسرطان أصبحت شبحا في أعينهم«. هكذا هي إذاً حياة كل هؤلاء النسوة اللاتي يتجرعن مرارة وضعهن الذي لا يمكن وصفه بالكلمات العاجزة عن التعبير عن عواطف أمومتهن ولو في الخفاء. وهن يجتهدن يوميا في رفع درجة إيمانهن بالقضاء والقدر فيلجأن لقراءة القرآن ويبكين ويتوسلن إلى الله بأن يشفيهن، وهن يتألمن ألما مضاعفا، ألم الصراع مع المرض، وألم الصراع مع النفس الخائفة من الفراق والوحدة ومشاعر أخرى كثيرة تنتابهن.
أزواج يستبدلون زوجاتهم، وآخرون يشكلون السند وحسب تصريحات هؤلاء النسوة والمشرفة على دار المرضى، فإن هناك من الرجال من يتخلون عن زوجاتهم بمجرد اكتشاف اصابتهن بإحد الأنواع السرطانية، أو بعد ان تمر فترة ما عن الصدمة التي يتعرضون لها، فيبدو عليهم شيء من التغير في الشخصية، بل وفي معاملتهم لزوجاتهم إذ يبتعدون عنهن شيئا فشيئا وكأنه لم تكن بينهم صلة أو معاشرة، الرأفة والمودة ذهبتا من قلوبهم فهناك من يلجأ الى الطلاق بعد أقل من سنة، ومنهم من يتخلى عن زوجته فلا يقف الى جانبها. وقد رويت لنا قصة سيدة تخلى عنها زوجها بمجرد سماعه عن إصابتها بمرض السرطان من فم الطبيب الذي أجرى لها الفحص، وتكفلت بها عائلتها وكان يستعد للطلاق، غير أنها شفيت من المرض بعد قرابة سنتين فذهب الى بيت أهلها ليعيدها فرفضته وردت قائلة عليه »لو كنت تعي قيمتي وقيمة الزواج لما تخليت عني ولما فكرت في الطلاق، بل لكنت سندي دون منازع«، ولجأت إلى الطلاق بنفسها فخسر ذلك الرجل زوجته واولاده وسمعته، وهناك رجل آخر تخلى عن زوجته بعد شهر من زواجهما بمجرد أن اكتشفت اصابتها بالسرطان. وبالمقابل هناك من الرجال من لا يتخلون عن زوجاتهم، بل يشكلون السند الحقيقي لهن في محنتهن، ويظلون على تلك الحال الى آخر لحظة حيث يتم الشفاء او يحل الاجل، فهناك رجل اكتشف ان خطيبته مصابة بالسرطان حسب ما روته لنا النسوة، غير أنه لم يتخل عنها بل وقف الى جانبها الى ان اجريت لها عملية جراحية كللت بالنجاح، وتزوجها بعد خمسة عشر يوما من ذلك وساعدها على تلقي العلاج الكيماوي بالحقن والعلاج بالليزر الى ان شفيت من المرض، وظل الى جانبها لمساعدتها على اتمام حصص العلاج التجميلي التي مازالت تتلقاها في أيامنا هذه، مما زاد من درجة التقارب والتفاهم بينهما، وترى محدثاتنا من الماكثات بدار المرضى أن الله لا يمنح قوة الايمان بالقدر لمن هب ودب بل لمن شاء من ذوي القلوب الرحيمة، وطالبن أئمة المساجد بتناول موضوع الاصابة بالسرطان لدى النساء وتوعية الأزواج حول كيفية التعامل معهن وحثهم على عدم التخلي عنهن باعتبار ذلك منافيا للدين.