كسر الرئيس الأمريكي باراك اوباما القاعدة التي حكمت خطاب الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ ثلاثة عقود باتجاه إيران مستبدلا لغة التهديد والوعيد بلغة "ود" دبلوماسي بحثا عن علاقات أكثر استقرارا... ففي تحول مفاجئ أحدث الرئيس الأمريكي الجديد نقلة نوعية في خطابه باتجاه إيران عارضا على مسؤوليها طي صفحة الصراع وفتح ثانية أكثر إشراقا ببراغماتية تخدم مصلحة البلدين في ظل الاحترام المتبادل. وقد استبدل اوباما على غير عادة الرؤوساء الأمريكيين السابقين عبارات التهديد والعقوبات الاقتصادية والعسكرية ضد إيران بلغة عدّد من خلالها مزايا الحضارة من موسيقى وأدب واختراعات فارسية خدمت كل الإنسانية. وبلغة العارف بالحضارة الفارسية وتاريخها فقد فضل الرئيس اوباما الانتظار شهرين كاملين منذ توليه مهامه الرئاسية قبل أن يكشف عن قناعاته باتجاه إيران مفضلا حلول عيد "النيروز" رمز حلول فصل الربيع أو رأس السنة الفارسية ليوجه خطابه باتجاه السلطات الإيرانية لبدء مستقبل جديد يقفز على مواقف سابقه جورج بوش الذي اختار استراتيجية "العصا والجزرة" لإرغام إيران على وقف برنامجها النووي. وإذا كانت السلطات الإيرانية قد رحبت بمضمون خطاب الرئيس الامريكي ووصفته ب "الايجابي" الا ان ذلك لم يمنعها من التزام الحذر في تعاطيها معه وأكدت أنها تنتظر الملموس قبل الوصول الى مرحلة طي صفحة علاقات طغى عليها التوتر والريبة المتبادلة. وأبقت طهران على تخوفاتها رغم أن خطاب الرئيس الأمريكي حمل عبارات جديدة لم يعتدها الرأي العام الإيراني الى درجة جعل متتبعين يصفون مضمونه ب "التاريخي" من منطلق انه حمل مؤشرات لانفراج قد يتحقق في حال راعى كل طرف مصالح الآخر. ولكن الخطاب الذي حمل مقاربة أمريكية جديدة يبقى رهان تحقيقه من وجهة نظر عملية صعبا على الأقل في المنظور القريب خاصة وانه وجه رسالة مشفرة يجب على الإيرانيين قراءتها بين الأسطر وهي انه إذا كان من حقهم تطوير قدراتهم النووية فإن ذلك يجب أن يتم في إطار سلمي بعيدا عن أي تهديد للمصالح الأمريكية في المنطقة ومن ورائها المصالح الإسرائيلية وأمنها. وهو "الشرط" الذي يرجح أن يؤدي إلى اصطدام عرض الرئيس اوباما بموقف إيراني متشدد ليس فقط إزاء الملف النووي ولكن أيضا بخصوص إسرائيل والعديد من القضايا الخلافية الاخرى وهو ما يعني بلغة الدبلوماسيين أن طهران مازالت تنظر إلى المواقف الأمريكية بعين الريبة والشك في إمكانية قيام واشنطن بتغيير موقفها من النقيض إلى النقيض وبمثل هذه السرعة لطي صفحة خلافات عمرت لأكثر من ثلاثين عاما. وهي معطيات تجعل من التقارب الأمريكي الإيراني مستحيلا على الأقل في الآجال الراهنة في ظل المقاربة المتنافرة بين البلدين حول نظرة كل منهما مثلا لإسرائيل فهي بالنسبة لإيران العدو الأول الذي يجب أن يمحى من خارطة الشرق الأوسط بينما تمثل بالنسبة للولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي الذي يتعين الدفاع عنه بشتى الوسائل بما فيها القوة العسكرية إذا استدعى الأمر ذلك. وهو الموقف الذي لم يخفه علي أكبر جافافخر الناطق الإعلامي باسم الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد الذي أكد أن الرئيس الأمريكي لا يجب أن يطالب إيران بنسيان المواقف العدائية الأمريكية تجاه بلاده ولكنه مطالب بدلا من ذلك بالاعتراف بتلك الأخطاء والتكفير عنها بإجراءات عملية إذا كان فعلا يريد نسيان الخلافات السابقة". والواقع أن براغماتية الرئيس اوباما لم تأت حبا في إيران بقدر ما فرضتها معطيات ذات علاقة بأوضاع الولاياتالمتحدة المشتتة قدراتها الاقتصادية والعسكرية على المستنقعين العراقي والأفغاني في سياق تداعيات أزمة مالية مستفحلة أدخلت الاقتصاد الأمريكي في ركود فعلي لم يعرفه منذ أزمة النظام الرأسمالي الأولى سنة 1929 وجعلت من الصعوبة على الإدارة الأمريكية فتح جبهة أخرى مع إيران. وهو ما تسعى ايران الى الاستثمار فيه بقناعة ان التواجد العسكري الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان يبقى خطرا محدقا ويهدد أمنها القومي ويحد من طموحاتها كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها في أية ترتيبات سياسية. واستغلت إيران هذه المعطيات ورفضت الإذعان للضغوط الأمريكية والغربية زادها السياق الزمني الذي تمر به الولاياتالمتحدة إصرارا على التمسك بموقفها وبقناعة أنها قوة محورية لا يمكن تجاهلها في رسم أية توازنات دولية مرتقبة في منطقة تبقى من اخطر مناطق العالم. وقد استغلت طهران في ذلك أيضا علاقاتها المتميزة مع روسيا والصين القوتان الراغبتان في "التشويش" على الإدارة الأمريكية وعدم تمكينها من تجسيد استراتيجيتها في إحدى أكبر مناطق العالم أهمية وتأثيرا في صيرورة الأحداث الدولية. ولم تكن تصريحات روسيا أمس بان "البرنامج النووي الإيراني لا يحمل أية نوايا عسكرية" بريئا ولا يمكن إخراجه عن سياق مضمون خطاب الرئيس الأمريكي الذي رأت فيه موسكو من جهتها بانه قد يخلط عليها حساباتها في علاقاتها المتميزة مع طهران بل وتهديدا لمصالحها في مياه الخليج الدافئة التي تسعى إلى العودة إليها بعد سبات شتوي دام قرابة العقدين.