تحدث الأديب الجزائري الكبير واسيني الأعرج ل"المساء"، عن ظروف كتابته لروايته "ليليات رمادة"، التي صدرت إلكترونيا في سبتمبر الماضي، وورقيا في 15 جانفي الجاري، وتوزع في الأسواق العربية بجزأيها؛ "تراتيل ملائكة كوفيلاند"، و"رقصة شياطين كوفيلاند". قال الأديب واسيني الأعرج ل"المساء"؛ إن فكرة كتابة ونشر رواية عن مناخات "كوفيد 19"، نشأت خلال إقامته في منطقة شمال باريس الحمراء، التي اعتبرت من أكثر المناطق وباء ونشاطا فيروسيا، حيث احتمالات الإصابة فيها كثيرة. أضاف أنه في عز الانكفاء والحجر الصحي، ومواجهة الموت المتربص في كل حركاتنا العفوية، كتب رواية تدور أحداثها في عز الجائحة، وكان السؤال الكبير "هل الكتابة عن الجائحة ممكنة، في وقت ترتد النفوس إلى دواخلها، مكتفية بخوفها ومراقبة علامات "كوفيد" التي يمكن أن تهز كل يقينيات الجسد؟ حقا كانت مغامرة بلا حساب مسبق". تابع "كانت مغامرة بلا حساب مسبق، وعندما صدر قانون الانكفاء الإجباري من طرف الدولة الفرنسية، كان عليّ وعلى الكثير من الأصدقاء، أخذ الأمر بجدية لمواجهة موت محتمل. أولا، بسبب سننا الذي تجاوز الستين، مما يجعلنا طعما سهلا ل"كوفيد19" . ثانيا، أن مرضا قاتلا مثل "كورونا" لا استهانة به، كونه سريع العدوى والإجهاز على الإنسان". ذكر واسيني أنه عندما سأل أحد الأصدقاء الفنانين، عن كيفية مواجهة هذا الوباء القاتل، أجاب ببساطته المألوفة "أقاومه بسلاحي الأوحد؛ الفن"، كما أنه يفكر في إنجاز لوحة كبيرة مليئة بالتفاصيل الرمزية والوجودية المتعلقة بمقاومة الإنسان منذ العصر الحجري حتى اليوم. مقاومة أبدية، لا الموت استسلم فيها، ولا الرغبة في الحياة توقفت. فوسيلته الوحيدة ليبقى حيا دون أن يفكر في الموت، الرسم. فيرسم ويرسم حتى يرهق الموت بسلاحه الفتاك: ريشته وألوانه. نعم، الموت يخاف من اللغة والألوان والحرية. رواية أخفت رواية أخرى تابع واسيني مجددا "كنت وقتها عالقا في روايتي (حيزية)، واحدة من أجمل قصص الحب الإنسانية التي حدثت بالفعل في الجنوب الجزائري في القرن التاسع عشر. كنت قد هيأت كل شيء لكتابتها، بعد أن جمعت الكثير من المعلومات النادرة التي كان يفترض أن تخرج لأول مرة إلى العلن، حول قصة "حيزية" مع الشاعر بن قيطون؟ أو "سعيد"؟ زرت بسكرة، بوابة الصحراء الجزائرية، حيث جرت وقائع القصة التراجيدية، لتدعيم مادة الرواية. فاستمعت إلى المرويات الشعبية المهمة، وتحليلات بعض الباحثين في التراث الشعبي، كما زرت قبرها وقبر أهلها، وبعض المواقع التي كانت مسرحا لأحداث الرواية. وكنت أنوي أن أقوم برحلة، من منطقة بازر الصخرة، إلى سيدي خالد، حيث منتهى الرحلة الأخيرة لحيزية رفقة حبيبها، قبل موتها أو قتلها؟ لكن الجائحة منعتني من ذلك". أكد عدم معرفته السبب العميق والقوي الذي جعله يعلق قصة "حيزية"، ويتفرغ فقط لقصة لم تكن ملامحها قد اتضحت بعد؟ لكن من إيمانه بمقولة "يمكن لحقيقة أن تخفي حقيقة أخرى"، يقول "يمكن لرواية أن تخفي رواية أخرى. وهو ما حدث مع "حيزية". ليتساءل؛ "المشكلة الكبرى هي؛ هل سأكتب يوميات الموت في المساحة الحمراء، كما فعل الكثيرون، أم أفكر في شيء مغاير تماما؟". أشار إلى تركه كل شيء وإصراره على كتابة شيء يخرجه من دائرة الموت، ولو مؤقتا. فكانت نواة فكرة "ليليات رمادة" في مناخات "كورونا" أخرى قاتلة "الفساد المعمم، الجريمة الموصوفة، المافيا/ السلطة، الانهيارات البنيوية السياسية والاقتصادية"، معتبرا أن "كوفيد 19" لم يكن إلا تعبيرا رمزيا عن السقف المميت، الذي وصلت إليه الأوضاع العربية. في هذا السياق، فكر في أن يكتب لكي لا يفكر في الموت الذي أخذ الكثيرين من أفراد العائلة في الغربة، وفي البلاد، حتى جاره النشيط سياسيا، اليساري والنائب الأول للبلدية في شمال باريس، بوعلام بن خلوف، لم ينج من أجهزة التنفس والموت. أكد على ضرورة عدم اكتفائه بالكتابة عن الموت، لكن أن يخترق الصمت والخوف المبطن، فتوجه نحو قرائه في صفحته على "فيسبوك"، الذين كان يعاني الكثير منهم من العزلة العالية في مناطق كثيرة من العالم (الجزائر، المغرب، تونس، مصر، السودان، ليبيا، فلسطين، عمان، بيروت، سوريا، موريتانيا، تورينو، فرنسا، كندا، أمريكا، بلجيكا، وغيرها). ورشة افتراضية أنجبت رواية تحدث واسيني ل"المساء"، عن تجربة جديدة تمثلت في تنظيم ورشة تكوينية افتراضية مجانية، ثمنها الإصرار على الحياة فقط. لم يعلن عنها حتى لا تبدو ذات طابع مدرسي، لكنه دعا قراءه إلى مرافقته لعيش ميلاد رواية يكونون هم طرفا عارفا بخباياها. واقترح عليهم أن يبدوا ملاحظاتهم حول كل ما يقرؤونه من الرواية بكل صراحة وحب، والتزم واسيني بالرد على جميع التعليقات. أضاف أنه بدأ رفقة قرائه في هذه التجربة، وفي هذا السياق، نشر فصلين في الأسبوع، يومي الخميس والأحد، في مارس 2020، وكانت المفاجأة مذهلة. أكبر بكثير من أفق انتظاره. كما اتخذ نشر الفصول مدارات جدية، ليتحول النقاش بالفعل إلى محاورات حقيقية، بمستويات مختلفة، كأنهم في ورشة حية، موضوعها رواية هم شركاء في ميلادها بشكل ما من الأشكال. كما لم يكن رفقة القراء بحاجة إلى استعارة رواية لكاتب ما والتطبيق عليها، باستحضار مفاهيم انبثاق موضوع الكتابة، البداية وصعوباتها، النشاط السردي بموضوعاته وشخصياته المختلفة، مستويات التخييل، اللغة وسياقاتها، الحوارات.. وقد كان القراء يعلقون، ويرد من جهته بجدية على كل التعليقات، بالخصوص تلك الطويلة التي تتعدى الانطباع إلى المناقشة. وعلى مدار أربعة أشهر، وثلاثين ليلة متتالية بلا توقف، وآلاف التعليقات الجادة، كبرت هذه الرواية بين أيدي واسيني ومن اشتركوا في ميلادها، حيث انفردت مجموعة من القراء، كانت أكثر وفاء والتزاما بالرواية حتى نهايتها. وتحولت من مجرد اشتراك لتقاسم الحياة، لتجاوز محنة "كورونا"، إلى منصة نقاشية وورشة روائية بامتياز. في المقابل، قام واسيني، حسب ما صرح به ل"المساء"، بتنشيط عشرات الورشات الأدبية الجميلة عبر العالم، كلها كانت ذات قيمة معرفية وفنية وأدبية كبيرة، لكن هذه الورشة الافتراضية التي لم تُعلن عن اسمها، كانت حالة خاصة. فقد عاش القراء، نقاد محترفون وأكاديميون، كتاب شباب، وقراء شغوفون بالقراءة، هذه التجربة بشكل جميل وعميق، ربما غير مسبوق، حيث انخرطوا في العملية الكتابية، وفي الممارسة الإبداعية قراءة وتعليقا، وانتظارا لصدى ملاحظاتهم، وفي هذا، أكد المتحدث أن التزامهم شجعهم على المواصلة، مثلما كان الأمر في الرد على كل واحد منهم. فقد كانوا حاضرين ومداومين، ومن حقهم أن يسمعوا صدى لملاحظاتهم. فقد تفرغ لهم، مؤكدا عدم طلبهم الدخول في النص لتغييره، كما أنه لم يفتح هذا الباب. فقد ظل التفاعل قرائيا بشكل قوي. لأنه يؤمن بأن الإبداع مسألة فردية بالدرجة الأولى، دون إهمال طابعه الاجتماعي. تابع حديثه "لكن في الحلقة 29، تم تدمير أفق انتظار غالبية القراء. كانوا ينتظرون لقاء رومانسيا بين الموسيقي شادي والطبيبة رمادة، وهو ما يحدث عادة في روايات الحب، لكن الذي حدث كان شيئا آخر، مخالفا جذريا لأفق التوقع. مما يمكن تسميته بضربة مسرح Coup de théâtre. فبدا شادي في هذه الحلقة خائنا بالمعنى العاطفي مع الموسيقية ميشا، التي ظلت معه طوال فترة مكوثه في المستشفى الوطني بفيينا، بسبب إصابته بفيروس "كورونا"، وانتهت به إلى العناية المركزة وجهاز التنفس. وكان لا بد من التمرين على كتابة نهاية يرونها هم كقراء مناسبة للنص، في انتظار نشر النهاية الرسمية للرواية التي كنت بصدد كتابتها. كانت اللعبة الأدبية انقلابا كبيرا على كل الشخصيات التي أحبوها. كانت الورشة الافتراضية قد وصلت إلى منتهاها. ونشرنا كل النهايات المحتملة التي اقترحها القراء الذين تطوعوا لكتابتها، لنص تابعوه على مدار أربعة أشهر، من بداية الانكفاء حتى تاريخ الشروع في فكه". أضاف أنه بنشر النهاية الرسمية التي أعادت الاختلالات إلى توازنها الطبيعي، انتهت أطول ورشة روائية افتراضية، مشيرا إلى أنه عندما أغلق هذه التجربة، فكر في أن يضع على لسان راما أو رمادة، جملة ظلت عالقة في حلقه، وهي "أستطيع الآن أن أموت". وكانت الفكرة تعبيرا عن داخله، لأنه لم يمنح نفسه في تلك المساحة الموبوءة، لحظة راحة واحدة في حربه/ حربنا، ضد "كوفيد 19"، بلا هوادة. ثم تساءل بعدها، عندما أصبحت ليليات رمادة حقيقة، "لماذا لا أقول الآن: أستطيع الآن أن أحيا؟". للإشارة، رواية "ليليات رمادة" متوفرة ورقيا في الأسواق العربية، بجزأيها "تراتيل ملائكة كوفيلاند"، و"رقصة شياطين كوفيلاند"، منذ 15 جانفي الجاري، بعد أن صدرت إلكترونيا في سبتمبر الماضي بفعل جائحة "كورونا". أما عن الطبعة الجزائرية، فقال واسيني في صفحته على "الفايسبوك"؛ "بالنسبة للطبعة الجزائرية، فقد أوْقَفَ مدير المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية الجديد، برنامج النشر كليا (حسب ما قيل لي في الدار). طلبت بدون أي جدل، من مسؤول النشر في الدار، إيقاف نشر الرواية في طبعتها الجزائرية، مع وعد من دار الآداب بإيصال الطبعة البيروتية إلى الجزائر، من خلال وكيلها هناك، وبسعر مدروس".