الجزائر تفقد مع مرور الأيام وجوها ثقافية بارزة، وجوه تسلّحت بحب الوطن وتترست به في وجه العواصف العاتية الآتية من البقاع الغربية ومن بلاد الصفاقة والأناقة على الخصوص، من أجل الوطن كان الغناء وكانت أيضا الضريبة التي يفرضها هذا الحب لكلّ من أخلص له، قد تبكي عيون وتجف أخرى وتبحث أخرى عن دمعة متمنعة أبت النزول كبرياء منها حتى لا تتهم بالضعف، عمر البرناوي الراحل الغائب، استوقفتنا عنده مساء أول أمس ثلة من زملائه وأصدقائه بقصر "رياس البحر" .. عمر ركب فرقاطة جزائرية ومضى مع المجاهدين مبحرا وها هي الأمواج تردّد بعضا من بقايا "من أجلك يا وطني"، الدكتور أحمد منور والأستاذ خليفة بن قارة من بين الرياس الذين عادوا ببعض أمتعته، معلنين للناس أنّه رحل ولكنّه ترك أشياء لكلّ من يحبّ هذا الوطن. الجمعية الوطنية الثقافية "محمد الأمين العمودي" كانت صاحبة المبادرة، وكان السائحي الذي يشهد له الجميع بالوفاء لمن سبقوه من حملة الأقلام والأوراق حين يضعون أمتعتهم ويستريحون يتفقّدها، ومن متاع البرناوي كتابه الأخير الذي استراح خلاله من أعباء الحياة وثقلها وأودعه ظهر حمار على شاكلة حمار الحكيم وأحمد رضا حوحو وتركه يمضي لسبيله، الكتاب الذي يحمل عنوان "حوارات في الثقافة والسياسة مع جحش"، الصادر بدعم من وزارة الثقافة في إطار الصندوق الوطني لترقية الفنون والآداب وتطويرها، من القطع المتوسط ويحتوي على 300 صفحة وهو متعدد العناوين، كما لاحظ ذلك الدكتور أحمد منور في قراءة استعراضية له، "حوارات في الثقافة والسياسة مع جحش"، نصوص، رواية، ورأى الأديب أحمد منور أنّ الكتاب من جنس المذكّرات. يقول منور في عرضه لهذا الكتاب، أنّه يطرح مشكلة على مستوى التصنيف، هل هو حوارات مثل الحوارات الصحفية؟ أم هو رواية كما كتب في العنوان الداخلي للكتاب؟ أم هو نصوص؟ ويضيف منور في عرضه هذا، أنّ المؤلف لم يكتب مقدمة لكتابه هذا، والطريقة التي كتب بها لا تنطبق على الرواية، وأنّ التسميات المذكورة في الكتاب لا تنطبق عليه من حيث كلمة نصوص وحوارات، ويخلص الدكتور منور إلى القول أنّ الكتاب مذكّرات شخصية للكاتب، يتحدّث فيها عن نفسه وعن أحداث حقيقية جرت في التسعينيات من القرن الماضي، كما يتناول الكتاب شخصيات صريحة وواضحة، شخصيات حقيقية، وهذا ما يجعلنا نحكم عليها بأنّها مذكّرات شخصية. أمّا من الناحية الأدبية والفنية - يضيف منور - فإنّنا لا نجد من هذا الجانب إلاّ شخصية "الجحش"، وهذا نجده في الأدب من حمار أبوليوس الذهبي إلى حمار الحكيم وحوحو، ويرى الأستاذ منور أنّ الكاتب تناول كثيرا من القضايا الشخصية والعامة كالمجلس الانتقالي وما طرح فيه، الانتخابات، التعريب، ملحمة الجزائر التي شارك في كتابتها، وقد تميّز في طرحه بالصراحة والوضوح في موقفه من التاريخ، التعريب والشخصيات الوطنية. كما لاحظ الدكتور منور أنّه في بعض الأحيان يغلب على المؤلف الجانب الحماسي، وأنه أنهى مذكراته بما تعرّض له في السنوات الأخيرة من التهميش "والضرب على المؤخرة " - حسب تعبيره - وسجّل ذلك في قصيدة طويلة من الشعر الشعبي تحتوي على مائة بيت قال في مستهلها: " يا دنيا يا بنت الكلب يا دنيا يخزيك الرب " وأضاف الدكتور منور أنّ الكاتب سجّل الكثير من التفاصيل عن حياته الخاصة والعامة. أمّا الأستاذ خليفة بن قارة فتناول البرناوي الإنسان والكريم والصحفي الذي عاينه عن كثب، وأكّد أنّ الكتاب يتميّز بالصدق والمعاناة التي عاشها البرناوي في سنوات التهميش. وللتذكير، حضر هذه الندوة ولا أقول التأبينية كما ذكر ذلك الأستاذ السائحي، بل التكريمية التذكيرية، أصغر أبناء البرناوي، إسلام، وثلّة من المثقفين. رحم الله عمر البرناوي، ونتمنى أن تظّل أعماله حيّة تذكّرنا بحب الوطن والإخلاص له.