قائمة الفيل المقدودة من خشب الأبنوس ما زالت على حالها بعد مضي أكثر من خمسين عاما على دخولها إلى دارنا. جاء بها عمي من أرض الهند، ومن ميناء بومباي على وجه التحديد لتؤدي دورها بين أيدي المدخنين، لكنها خدعتهم جميعا، ولم تتلق رماد سجائرهم إلا لماما. في أيام الصبا الأولى، تأملتها مرات ومرات، ومسحت جانبا منها بعناية فائقة، لا سيما القطع العاجية المغروزة في أطرافها، ونسيتها مرات ومرات، غير أنني عدت إليها في المدة الأخيرة لأنها كبرت دون أن تتغير تقاطيعها، ولأنني كبرت وتحولت من اليفاعة إلى الشباب فإلى الكهولة فإلى مطالع الشيخوخة المبكرة. كنت أنسج حكايات وحكايات حولها لا سيما وأنها جاءت من الهند، بلد العجائب، ومن بلد (موجلي) ابن الغابات، وبطل رواية (رديارد كيبلنغ) الشهيرة. ولست أدري ما إذا سأظل قادرا على الإرتحال نحو جوانبها الخفية لكي أطرز حكايات أخرى لم تطرأ على بال الأطفال في يوم من الأيام. كل ما فعلته في المدة الأخيرة هو أنني وضعتها في جانب من مكتبي، أحاول أن أقيم علاقة جديدة معها فترفضني، وتطوح بي في متاهات أخرى تتولد يوما بعد يوم بفعل مطالعاتي في الأدب وفي الحياة. اليوم، فتحت لي صدرها، وأعادت إلي صورة عمي وهو عائد من الهند بحرا في عام 1953. قال لي وهو لا يدري أنني قرأت يومها قصص ألف ليلة وليلة كلها: هذه القائمة قادمة من بلد السندباد! ورحت بدوري أصور له الهند والسند وفقا للصور التي تداعت على مخيلتي بفعل حكايات السندباد، وهو يتعجب مني ومن معرفتي ببلاد الهند وأنا لا أكاد أتجاوز الثامنة من العمر. ربّ رحلة يقوم بها الإنسان دون أن يبرح مكانه. ولذلك عندما سئلت غير ما مرة عن سبب عزوفي عن الارتحال بحرا صوب بلاد الله الواسعة، أجبت: لأن الرحلة في عين المكان هي أجمل الرحلات على الإطلاق! قد لا يفهمني من ينصت إلي، لكنني أفهم نفسي، وأفهم ما أريده في هذه الحياة، وذلك هو الأمر المهم. هل كنت أستطيع العودة إلى الماضي، أو الارتحال إلى الماضي البعيد لو أنني لم أحافظ على هذه التحفة الفنية المقدودة من خشب الأبنوس؟ وهل كنت أقوى على قراءة روايات رديارد كيبلنغ في أصلها الإنجليزي لو أنني لم أربط بين هذه القائمة وبين ما يجيء من الهند والسند عبر قراءاتي كلها؟ ها أنذا في هذا الهزيع الأخير من الليل، أتأمل للمرة الألف هذه القائمة الخشبية وأترحم على عمي وعلى مغامراته البحرية في أقصى الأقاصي، وأمني النفس برحلات في عين المكان، وعلى متون الكتب، ومن خلال الأفلام السينمائية والتلفزيونية، وأكرر في أعماقي: رب رحلة تقوم بها، يا هذا، دون أن تبرح مكانك!