منذ سنوات وسنوات وبفضل شباب متوقد الحيوية عميق الوعي ملتهب الوطنية ومع الكثيرين من أهل الخير رحنا نتصدّى لتوجهات مَريضة مغرضة كانت تحاول أن تسيئ لكل ما هو نبيل وشامخ في تاريخنا، وأن تشوه مسيرة الكثيرين من رجالاتنا بما جعل من أصحاب تلك التوجهات وجودا أقرب للطابور الخامس. ورحنا في هذا الصدد نحاول إحياء ذكرى أحداثنا الوطنية والتذكيرَ برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان مجال تحركنا في كثير من المناسبات بعض المواقع الجامعية والمقرات الصحفية والمنابر الإعلامية، وعلى وجه الخصوص متحف المجاهد المركزي بالعاصمة الجزائرية الذي كان يديره الأستاذ مصطفى بيطام. وفي خضم كل هذا، عملنا على ترسيخ تقاليد الاحتفال بسنوية رحيل الرئيس هواري بو مدين، انطلاقا من سطيف، ومرورا بعدة مدن، ووصولا إلى قالمة، حيث أصبحت جمعية الوئام برعاية الولاية تتكفل بتنظيم اللقاء السنوي، والذي عرف العام الماضي مشاركة دسمة تقدمها وزير المجاهدين. وظل أملنا دائما أن يُقام الاحتفال الرئيسي بتكريم قياداتنا الوطنية في ذكرى رحيلهم بعاصمة البلاد، بدون أن يحول هذا وبين احتفال رمزي في مسقط الرأس، ولكن بدون الاقتصار عليه، بما يحوّل الزعيم الوطني إلى زعيم دُوّارٍ، والتظاهرة التاريخية إلى ما يشبه كرنفالا في دشرة. كنا وما زلنا نرى أن من العيب أن يقتصر الاحتفال وأقول يقتصر الاحتفال بذكرى رحيل بو مدين في قالمة وأحمد بن بله في تلمسان وحسين أيت احمد في عين الحمام والشاذلي بن جديد في الطارف وعبد الحفيظ بو صوف في ميلة ورابح بيطاط في قسنطينة، ناهيك من القيادات التي فجرت ثورة أول نوفمبر، والتي تمر ذكرى كثيرين منها بدون وقفة ترحم تقر بها، على الأقل، أعين الأبناء والأحفاد. وأنا أعرف أنه من العسير أن نحتفل بذكرى كل القيادات في العاصمة، لكنني أثق بقدرة وزارة المجاهدين على وضع قائمة رمزية يمكن أن تمثل كل القيادات الوطنية، وهو ما لا يمنع أن تتخذ الاحتفالات في الولايات قيمة تجعل من المدينة أو القرية أو حتى الدوار أو الدشرة عاصمة رمزية مؤقتة، بفضل تنظيم محكم ونشاط إعلامي مُوجّهٍ وذكي. هذا الاهتمام كله لا يهدف إلى تقديس القيادات الوطنية التي رحلت عن عالمنا، كما ادعى شبه مؤرخ من فتات الزمن الرديء، وهو ليس عبادة للذات بأي حال من الأحوال، فنحن نعرف أن التقديس، إن كان، لا يصح إلا للرسل والأنبياء، وندرك أن أشباه المؤرخين ممن يلوكون تلك الأقاويل هم أناس متأثرون بالعجمة مرضى بعقدة النقص ومصابون بعلة العجز عن فهم عبقرية الحرص على الوحدة الوطنية، فيخلطون بين التقديس وبين التمجيد، ولا يعرفون الفرق بين هذا وذاك، ولا يدركون، عجزا أو تطاولا، أن التمجيد والتكريم والتذكير بالرجال وبالمواقف وبالمآثر هو أولا حق للشعوب، لأنه يدعم مشاعر العزة والكرامة في نفوس أبنائها ويزرع في قلوبهم اليقظة الوطنية ويهبهم قوة التفاني في خدمة الوطن والدفاع عنه لا ضد العدوّ الخارجي فحسب ولكن ضد النفس الأمارة بالسوء، ويجعل من "الحشود"، التي أسماها البعض "غتشي"، شعبا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. من هنا فإن تمجيد القيادات الوطنية بدون استثناء هو عمل أكبر من مجرد الاهتمام بشخصيات اصطفاهم المولى عز وجل لمهام جليلة، وكل منهم كان مجرد بشر، يجتهد ويصيب ويجتهد ويخطئ، ومعظم الذين يَعْمون عن إنجازات أي عظيم من رجالاتنا وينشبون أظافرهم في أخطائه أو عثراته هم مرضى بأسوأ الأمراض، مرض الحسد المرتبط بالحقد والغيرة وعقدة النقص والشعور بالضآلة وتذبذب الانتماء، ومن حسن الحظ أن هؤلاء، مهما علتْ أصواتهم، قلة في ميزان التاريخ. وأنا أقول دائما إن أمة تستهين برجالاتها ستتعرض للإهانة من شبابها، وشعب لا يحترم كباره سوف يحتقره صغاره، ومن يُلقي بأبيه في دار العجزة يمكن ألا يجد يوما سقفا يؤويه. هذا العام نحتفل بالذكرى الرابعة والأربعين لرحيل هواري بو مدين في العاصمة الجزائرية، وهو أمر يُحسب للسيد رئيس الجمهورية ويُحسب أيضا للسيد وزير المجاهدين، برغم أنه قال لي حرفيا: أنا خاطي، أنه الرئيس الذي أمر بذلك. والشكر موصول لمن قاموا بتنظيم هذا الحفل، وتمكنوا، في أيام معدودة، من إنجاز عمل يحتاج إلى أسابيع بل إلى شهور، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله. ولأنني أتفهم حجم المشاركات التي سيتفضل بها الرفاق أعتذر عن عدم التوسع في الحديث عن الرجل، الذي أصيب العالم الديبلوماسي بالذهول وهو يرى أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بكل جنسياتهم وانتماءاتهم يبادرون بالوقوف تباعا بمجرد أن علموا أن الرئيس هواري بو مدين يدخل قاعة مبنى علبة الكبريت في نيويورك، في ذلك اليوم المشهود من أبريل 1974. غير أني، للأمانة، أستأذنكم في وقفة قصيرة أسترجع فيها معكم بعض ما يتصل بالرئيس الذي عملت تحت أمرته كوزير للدفاع عدة سنوات، وكنت إلى جانبه في رئاسة الجمهورية سنوات أخرى، كانت بالنسبة لي مدرسة كبرى تعلمت فيها الكثير مما لم يكن من الممكن أن أجده في الجامعة، وفي أي جامعة. والوقت قصير، ولهذا لن أتوسع في الحديث عن هواري بو مدين، صاحب النظرة الإستراتيجية التي سبقت الجميع وحذرت الغرب في منتصف السبعينيات من تهاطل مهاجري الجنوب بأعداد رهيبة وفي ظروف بالغة السوء على موانئ الشمال، بعد أن سُدّت في وجوههم أبواب العيش الكريم نتيجة مؤامرات الاستعمار الجديد والشركات الغربية متعدية الجنسيات، والزعيم الذي ترددت صرخته في نيويورك وهو يندد بنظام عالمي ظالم وُضِع في غيبتنا ويجب أن يتغير، وهو ما يردده كثيرون اليوم مع التعتيم على أول من أطلق الصيحة، ربما لمجرد أنه زعيم يعتز بعروبته وبإسلامه، يعني ...دكتاتور إرهابي. وأتذكر هنا أيضا تفاصيل صرخة الهواري التي اهتزت لها لاهور الباكستانية ومواقع أخرى، عندما حذر أثرياء المسلمين من تجاهل ما يعانيه فقراء الأمة، وسخر، ضمنيا، من حماقة من يدعو جائعا إلى الصبر لأنه سيأكل في الجنة. وفي الحديث عن لاهور الباكستانية لا يمكن أن ننسى دوره الخالد مع الملك فيصل والعقيد القذافي لدعم جهود الجمهورية الإسلامية في مجال النشاط النووي، وتمويل صناعة القنبلة النووية الإسلامية، حتى لا يحتكر بلد آسيوي مجاور أقوى أسلحة الفتك. وأنا على يقين من أن الحاضرين في معظمهم، وأنا أرى وجوها كريمة تجمع بين رجال الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، ليسو في حاجة لإطالة الحديث عن رجل يعرفون فهمه العميق لوضعية التوازنات الوطنية والدولية، ويعتبره العارفون من أهم الرموز القيادية العالمية التي تجسد مبدأ عدم الانحياز وترعى حيويته وتحرص على انسجامه مع تطورات العصر. ومن هنا لن أتوقف بالتفصيل عند ما يعرفه الكثيرون منكم عن الشخصية القيادية للرئيس وعن قدرته الفائقة على الاختيار بين البدائل المطروحة واقتناص أفضلها، أو في تحديد الأسبقيات التي تبدأ بالأكثر أهمية لتنتقل إلى ما هو أقل أهمية، ولن أذكر بأن بومدين لم يكن يتخذ قرارا إلا بعد أن يقتله بحثا ودراسة وتحليلا، ويراجع معطياته مع أكبر عدد ممكن من أولي الرأي والخبرة، وأحيانا مع بعض البسطاء من المواطنين، وبعد ذلك يعلنه قائلا... قررنا ...بالجمع، وليس ...قرّرتُ... وأراها قمة التواضع من قائد يعرف الكثيرون أن التوجهات الرئيسية كانت من عنده، والكلمة الأخيرة كانت دائما له. تحيا الجزائر والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار ولا قرت أعين الجبناء