الدكتور والكاتب الإعلامي الكبير محي الدين عميمور، عرف هواري بومدين عن قرب، بحكم منصبه كمستشار إعلامي في الرئاسة، لكن أيضا كفاعل وراء الستار ومراقب سياسي. أتحف المكتبة العربية بعدد من الكتابات عن حقبة بومدين.. هنا حوار مع صاحب كتاب "أيام مع الرئيس هواري بومدين وذكريات أخرى". باختصار شديد جدا، كان تعارفنا الأول في بداية الخمسينيات في القاهرة، حيث كان كلانا يدرس هناك، ثم افترقنا والتحقت أنا بالثورة في 1957 وكان هو قد وصل إلى مستوى قيادي في الولاية الخامسة، ثم توطدت المعرفة أكثر بعد استرجاع الاستقلال، حيث كان العقيد هواري بومدين وزيرا للدفاع وكنت أنا مسؤولا عن الخدمات الطبية للبحرية الوطنية ومحافظا سياسيا لها، وأحسست يومها أنه كان يتابع تحركاتي ويهتم بنشاطاتي، خصوصا عندما بدأت أكتب في مجلة الجيش، وهي كتابات بدأت طبية واجتماعية ثم أصبحت سياسية. وكانت تحليلاتي السياسية في تصوري هي التي جعلت الرئيس يستدعيني في ماي 1971 لأكون مستشاره الإعلامي. على المستوى السياسي أستطيع أن أقول إنه كان مسؤولا لا يتخذ أي قرار قبل أن يشبعه بحثا بكل الوسائل، بدءا بإطلاق فكرة معينة خلال لقاءاته بالسلطات المحلية عبر ولايات الوطن، ثم التعرف على ردود الفعل أولا بأول عبر لقاءات مختلفة مع زواره ومستشاريه، ثم تتحول الفكرة إلى مشروع قرار يعرض على مجلس الثورة والحكومة، وفي الوقت نفسه يواصل بومدين جس نبض كل من يتصل بهم، وهكذا يتبلور القرار النهائي. وهنا أعطي صورة عملية ترسم طريقته في التفكير، وهي تتعلق بتأميم المحروقات في فبراير 1971، والتي اقتصرت على تأميم 51 في المائة فقط، وهو ما سخر منه البعض بعد وفاة بومدين، لأنهم لم يفهموا أن الرئيس لم ينس تجربة محمد مصدق في إيران، عندما أمم النفط بالكامل فقوطع من قبل كل المؤسسات الدولية مما وضع إيران في وضعية الاختناق. وهكذا أراد بومدين أن يحقق السيادة الوطنية على قطاع المحروقات بدون أن يحرم الشركات البترولية الكبرى من الحصول على حجم معين من فوائدها، وهكذا استفاد من مواصلة الشركات أبحاثها في التنقيب عن النفط، ولمصلحة تحقيق أكبر استثمار ممكن في المصدر الأساسي للثروة الوطنية، وفي الوقت نفسه فشل الحصار الفرنسي في خنق الجزائر. هناك مثال مرتبط بهذا القطاع، وهو إدراك بومدين بأن تزايد الثروة التي يوفرها النفط ستدفع ببلدان كثيرة إلى وضعية ثراء تجعل النفط هو الذي يملكهم، بدلا من أن يكونوا هم من يملكونه، وذلك بالتوازي مع وجود بلدان أخرى في نفس المنطقة لا تملك ثروات طبيعية مماثلة، وهو ما يخلق وضعية تناقض في إطار الوطن العربي والعالم الإسلامي. ومن هنا كان خطابه في لاهور الباكستانية في فبراير 1974وهو يدعو الأثرياء العرب إلى مساعدة الدول الفقيرة، وقال كلمته الشهيرة: لن أطلب من المسلمين أن يدخلوا الجنة بمعدة فارغة. وهنا أيضا استطاع إقناع الملك فيصل بتمويل النشاط الذري الباكستاني الذي مكن نظام إسلام أباد من صنع القنبلة النووية، فكان البلد المسلم الوحيد الذي نجح في ذلك، وهو ما لم ينسه الباكستانيون للجزئر، وكنت أنا السفير الوحيد الذي زار المفاعل النووي الباكستاني، الذي لم يزره قبلي ولا بعدي إلا السفير الأردني، نظر للعلاقات الخاصة مع الرئيس ضياء الحق. على المستوى الإنساني، كان رجلا رائعا، ولا أنسى أنه، عندما كان يستدعيني إلى مكتبه، كان يهاتفني قائلا بكل رقة: محيي الدين ...عندك دقيقة؟ وأتذكر أنه كان يقدمني للرؤساء الأجانب مستعملا لقب دكتور، وعندما سقطت طائرة الصحافيين في الفيتنام طلب جوازت سفر شهداء الواجب ثم اختلى بنفسه وعندما رأيناه بعد ذلك كانت عيناه محمرتين. ولعلي أضيف هنا أمرا آخر كان قد نشر في بعض صحفنا منذ عدة سنوات، وهو ما حدث في الأيام الأولى لتعييني في رئاسة الجمهورية عام 1971، عندما جاءه من يشكك في ولائي ونزاهتي فقال الرئيس: أريد ملفا موثقا عن هذا الأمر، ولم يصله أي ملف حتى وفاته. وأريد من هذا القول بأنه كان يرفض الاتهامات المجانية ويحترم إطارات الدولة، ويقول لي أحيانا: يجب أن نرفض توجيه أي إهانة للمسؤول في الدولة لأن هذا يخرب بناءها، وفرق بين الاتهامات الموثقة وبين الإهانات الرخيصة. كان بومدين يسمع كثيرا، لكنه لم يكن يقاد من أذنه، بل كان يتحقق من كل ما يسمع. من اللحظات التي عشتها مع الرئيس تلك الساعات في يوليو 1971 عندما حدث انقلاب المغرب، وكنت بجواره عندما اتصل به العقيد القذافي هاتفيا ليطلب منه السماح للطائرات الليبية بالمرور فوق الجزائر لقنبلة الملك الحسن في قصر الصخيرات. وأتذكر أنه عنف العقيد الليبي على مجرد التفكير في ذلك، ولعله أدرك بأن القذافي يريد أن يزايد عليه بالقول للثوريين العرب إنه كان يريد إنهاء حكم الملك الحسن لولا أن بومدين منعه من ذلك. وما يؤكد هذا الرأي ما قاله لي الرئيس في نفس الليلة تعليقا على ما طلبه العقيد: السيد يريد أن يهاجم الصخيرات وأنا متأكد أنه لا يملك خريطة سياحية يعرف منها مكان القصر. وأتذكر أنه قال لي يومها: استقرار المغرب مرهون باستقرار العرش الملكي، وهو ضمان لاستقرار الجزائر ومنطقة المغرب العربي كلها، وأي عبث هنا سينعكس سلبا على الجميع. وهناك بالطبع مواقف أخرى كثيرة، من بينها إسراعه بالسفر إلى الاتحاد السوفيتي في أكتوبر 1973 لمطالبة بريجنيف بتزويد مصر وسوريا بالأسلحة المطلوبة، عندما وصلت الأحداث إلى مرحلة مأساوية بعد أن اندفع الرئيس السادات في سيناء شرقا، بعيدا عن مظلة الصواريخ. ويذكر الحضور يومها في موسكو أن الرئيس بومدين ألقى بالشيك الذي يضع ملايين الدولارات تحت تصرف الاتحاد السوفيتي قائلا: لست هنا لأناقش أمورا سياسية، أنا أريد أن أشتري أسلحة لدعم المقاتلين الذين يتعرضون لعدوان إسرائيلي تدعمه الولاياتالمتحدة بدون حدود. وهناك وقفة الرئيس في قضية الصحراء الغربية، والتي كانت وقفة غاضبة عندما أحس بأنه خدع إثر تقسيم الصحراء بين المغرب وموريطانيا. وبالطبع أتذكر وقفته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي ما زال دخوله إليها أمرا يقشعر له جسمي كلما شاهدت كيف كان الحضور يندفعون للوقوف تحية للرئيس الجزائري. لو طرح الأمر على الرئيس بومدين لرفض أن يكون هناك شيء اسمه البومدينية، وهو نفس موقفه بالنسبة لمن حاولوا الترويج لما أسموه الناصرية. وقلت على الفور بأنني أنقل له ما أسمعه حولي، سواء من بعض المواطنين أو من العاملين معي أو من أفراد العائلة، وأعتقد أن هؤلاء يمثلون الشعب بشكل أو بآخر. وعاد يسألني وهو يرسم ابتسامة هادئة على وجهه: ماذا يقولون؟ وأجبته بمنتهى الصراحة، والتي كنت أحس بأنه يريدها ويحتاجها، حتى ولو تظاهر أحيانا بالغضب إذا أسيئ عرض أمر ما عليه، قلت: يقولون: أعطيناك اليوم الثقة الكاملة، فنظف حولك وأرحنا ممن يعيشون تحت برنوسك. وأجابني في غضب، كان واضحا أنه كان منفعلا، بالفرنسية: لست مستعدا لكي أقوم ب 19 جوان جديد (Je n'ai pas l'intention de faire un nouveau 19 juin) هناك مؤتمر الحزب في العام القادم، وعلى الكل أن يتحمل مسؤولياته. يجب أن نفهم في البداية ما هو المقصود من تعبير التوجه الديمقراطي، وهل أن التعددية الحزبية هي مرادف للنظام الديمقراطي، ثم كيف يمكن أن يسير بلد محطم نحو وضعية ديمقراطية كالتي تعرفها سويسرا؟. أنت تعرف أن أسبقية الرئيس كانت بناء الدولة، وكانت قضية الحزب بالنسبة له قضية لها مرحلة أخرى، وهي تتطلب من بين ما تتطلبه إعداد وثيقة عقائدية منطلقة من الواقع العملي لا من الفلسفة النظرية، مهمتها أن تحدد مفهومنا للحزب الواحد ولإمكانية تطويره، هكذا برز إلى الوجود الميثاق الوطني الذي عرض على الشعب للمناقشة ثم للتصويت، وكان الميثاق تلخيصا للتجربة التنموية الجزائرية. وفي 1977 بدأ يعمل لبناء الحزب، وكان يدرك بأن المؤسسة السياسية يجب أن تنسجم تماما مع المؤسسة العسكرية وتتكامل مع الجهاز التنفيذي. وهكذا كان اختيار قائد الأكاديمية العسكرية والمجاهد القديم محمد الصالح يحياوي لقيادة الانطلاقة الجديدة للحزب، واختار لمعاونته عددا من المجاهدين العسكريين، من أمثال الأحسن السوفي وخالدي حسناوي ومصطفى هشماوي وآخرين. وفي الوقت نفسه كان يدرك أن الحزب الواحد هو كجبيرة الجبس فوق ساق مكسورة، يجب ألا تتجاوز زمنا معينا وإلا أصيبت الساق بالتلف، ومن هنا كان يفكر في أسلوب تتطور به المؤسسة الحزبية نحو تعددية تنبثق من رحم جبهة التحرير. وأتذكر هنا أنه طلب مني دراسة حول الأسلوب الذي اتبعه الرئيس السادات للخروج بمصر من مرحلة الاتحاد الإشتراكي إلى مرحلة التعددية. ومما يؤكد هذا أن اللجنة المركزية التي انبثقت عن المؤتمر الرابع للحزب كانت فيها عناصر تمثل مختلف الاتجاهات الوطنية، وكان من الممكن أن تتحول إلى أجنحة داخل الجبهة تتطور تدريجيا إلى أحزاب مستقلة. لكن التصفيات التي أجريت على جبهة التحرير الوطني في 1983 وتم فيها التخلص من مناضلين معروفين كان من بينهم عبد العزيز بو تفليقة ويحياوي وعبد السلام بلعيد وآخرين كانت هي البداية الحقيقية نحو ما عرفناه من انزلاقات سياسية، تحولت إلى مأساة وطنية في التسعينيات. ولعلي أذكر هنا بأن الرئيس كان يرى دائما أن ممارسة الديمقراطية أمر مستحيل بالنسبة للأمي وللعاطل عن العمل وللمريض أو لمن لا يجد الدواء لأسرته، وأعتقد أن جهوده في تحقيق التنمية الوطنية المبنية على التوازن الجهوي كان خطوة منطقية نحو الديمقراطية. ثم إن الممارسة الديمقراطية تحتاج لتدريب وتكوين يبدأ من القاعدة، وفي هذا الإطار تمت الانتخابات البلدية في 1967 ثم الولائية في1969 واختتم الهرم الديمقراطي بإنشاء المجلس الوطني في 1977. صحيح، النتائج لم تكن في مستوى التوقعات، ولكن هذا لا يعود في تصوري لخلل في الاستراتيجية ولكن في الانحراف عن تلك الاستراتيجية. وأعتقد أن ما أنجز في الستينيات وفي السبعينيات كان يضع الجزائر على طريق تطور حتمي لا مفر منه نحو ما كان يسمى آنذاك: يابان إفريقيا، وليس سرا أنه لولا تلك الإنجازات، خصوصا في ميدان المحروقات وبعض الجوانب الصناعية لاختلف وضعنا كثيرا خلال العشرية الحمراء. وأنا أقول، تخيل لو لم تكن هناك تصفيات 1983، ولم يكن ذلك السفه الاستهلاكي الأحمق في بداية الثمانينيات ولم يكن هناك قانون الانتخابات المستلهم من قانون الجمهورية الفرنسية الخامسة في نهاية الثمانينيات، والذي أعطى الفيس حجما من المقاعد لا تنسجم مع حجم الأصوات التي حصل عليه، وكان هذا ما دفع بعض القيادات لارتكاب الحماقات التي وصلت بنا إلى ما تعرفه، ويمكن أن أواصل هذه "اللولوات" لنتخيل كيف كان يمكن أن يكون الأمر. ها أنت أيضا تستعمل "اللولوة"، وأنت على حق في ذلك لأن هذا هو ما يتردد فعلا على أفواه المواطنين، وأنا أقول بأن جزائر الثمانينيات كانت ستكون أحسن مما كانت عليه فعلا، وخصوصا في التعامل مع البلد الذي استعمرنا قرنا وثلث قرن، وكنا سنحقق فوائد كثيرة ونتفادى سلبيات أكثر، ولا أطيل في هذا المجال حتى لا يسيئ أحد فهم ما أقوله. عنصر الإلهام الحقيقي بالنسبة لكل من عرفتهم الجزائر من الرؤساء، وليس بومدين وحده، هو أن يكون المسؤول الأول قائدا وطنيا يعطي الأولوية المطلقة لمصلحة الجزائر ويدرك أن قاعدة الحكم الراشد هي المواطن الذي يستفيد من الحقوق ولا يهمل الواجبات، وفي الحرص على التكافل الاجتماعي، وأن يتصرف القائد بما لا يخلط بين الإستراتيجية والتاكتيك، وأن يعرف كيف يحدد الأسبقيات، وتكون حياته تعبيرا كاملا عن الاستقامة بكل معانيها السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وأعتقدأن هواري بومدين جسد تلك المعطيات كلها.