اليوم أحببت أن أجالس الخليل بن أحمد الفراهيدي على الرغم من تباعد الأزمنة والأمكنة بيننا. نزلت ضيفا على كتابه في علم العروض، أنظر في بعض فصوله على الرغم من أنني لست شاعرا، ولا صلة لي بالشعر إلا ذلك الذي أقرأه بين الحين والآخر، منذ عهد السليك بن السلكة إلى أدونيس والبياتي والسياب. أعجبني فيه ومنه صبره في معالجة موضوع هو من أصعب المواضيع الفكرية والعلمية على الإطلاق لأنه يجمع بين اللغة والرياضيات ودقائق الموسيقى. وأعجبني فيه أيضا موقفه وهو في دارته بالبصرة حين جاء إليه أحد خدام السلطان داعيا إياه إلى الالتحاق بالبلاط من أجل الإشراف على تربية ابن السلطان. وكان الفراهيدي معروفا بشدة اعتزازه بنفسه، وبعدم الميل إلى الاقتراب أو التقرب من الحكام أيا ما كانوا. ولذلك، دخل دارته بعد أن أكرم وفادة المبعوث، ثم عاد بعد وقت قصير حاملا قطعة من الخبز اليابس، وقال له: ما دامت هذه القطعة من الخبز في بيتي، فإنني لست بحاجة إلى العمل لدى السلطان. هذا الموقف الشريف قلما يتكرر في هذه الأزمنة التي نرى فيها كل من هب ودب يصانع الحاكم العربي مشرقا ومغربا، ويترجى خدمته ولو على حساب شرفه وشرف أهله وشرف العلم كله. وأعجبني منه صدقه، فهو عندما أشكلت الأمور أمامه، توجه حاجا إلى الكعبة المشرفة، وسأل الله حين الطواف بها أن يلهمه الصبر والأناة من أجل استكمال بحثه الخارق في مجال علم العروض. وكان له ما أراد حين استجاب الله لدعائه، وانصرف إلى دارته مغلقا بابها على نفسه إلى أن طلع على الدنيا بهذا العلم الجليل الذي يقال له علم العروض. الشعراء يدرسون علم العروض لكي ينطلقوا على قواعد صحيحة في النظم، وهم اليوم في حاجة إلى من يقنن لهم قواعد جديدة تخص شعر التفعيلة والشعر الحر والمرسل. لكنهم لم يعثروا على من تكون له الريادة في هذا الشأن مثلما كانت للخليل بن أحمد قبل أكثر من ألف عام. قال البعض إن الشاعرة الراحلة نازك الملائكة هي التي نظرت للشعر العربي الحديث، وقال آخرون غير ذلك، وما زالت الجهود مبذولة في سبيل معرفة من تكون له الكلمة الفصل في هذا الشأن. هذا يتحدث عن شعر تفعيلة، وذاك عن شعر مرسل، وثالث يتشبث بالشعر العمودي، وينكر على الآخرين أن ينظموا شعرا لا علاقة له بالتراث الشعري العربي الخارق. ونقرأ في بعض الملاحق الأدبية العربية أن الشاعر الفلاني يتجنى على زميل له لأنه لم يحسن التعامل مع الشعر المنثور وهكذا دواليك. وأنا لم أجد من يقنعني إلى حد الآن بضرورة الوقوف مع هذا أو ذاك، والسبب هو أنني أفضل مجالسة الخليل بن أحمد الفراهيدي لأسباب خلقية ولأسباب علمية. فهل يبرز في هذا الزمن فراهيدي جديد يجمع شملنا، نحن القراء، ويجمع شمل الشعراء كلهم؟.