الحديث مع الأستاذ عمار بوزيد المختص في الثقافة الموسيقية الجزائرية والذي قضى ردها من الزمن ومازال في البحث عن هذا التراث الغني بموسيقاه وطبوعه سواء وهو يعمل بالإذاعة الجزائرية أوأستاذا بالجامعة، شيق وممتع يأخذك بعيدا في ثنايا التاريخ والفن ويمدك بكثير من المعلومات المفاجئة، التقته جريدة "المساء" وأجرت معه هذا الحوار. - الأستاذ عمور بوزيد. عدت بنا من خلال الأغنية الأمازيغية "الموسيقى" إلى ما قبل الميلاد، ولكن تكلمت عن نضج هذه الأغنية في تلك المرحلة وأنها كانت أرقى من الأغنية الرومانية فكيف بدأت هذه الموسيقى وهذا الإيقاع حتى وصلت لذلك المستوى ؟ * التاريخ الموسيقي والغناء في الشمال الإفريقي يعود إلى تاريخ قديم جدا يمكن أن نحدده بحوالي ستة آلاف سنة من الآن، ومرتكزنا في ذلك على أنّ الغناء الجماعي الذي وجد في حدود القرن الثالث عشر قبل الميلاد والمتمثل في غناء السبيبة في منطقة جانت والذي هو مستمر إلى حد الآن، كما أن هيرودوت الذي عرف المؤرخ اليوناني في تاريخه أثنى على الغناء عند الأمازيغ في القرن الخامس قبل الميلاد، ونستنتج من ذلك أن هيرودوت الذي عرف موسيقى اليونان والفينيقيين والفراعنة جعل من موسيقى الأمازيغ موسيقى راقية في ذلك الزمن. أما بالنسبة للرومان فقد كان الأمازيغ أفضل منهم في الموسيقى بدليل أن كل المؤرخين للموسيقى أجمعوا على أن الرومان لم يرتقوا بموسيقى اليونان، بل أضعفوها عزفا ولحنا وهدفا، وركزوا فقط على الموسيقى التي تخدم مجتمعهم المجيش، أي موسيقى عسكرية بالدرجة الأولى. - من المعروف أن الرقي الموسيقي لا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة إلا إذا كان مصحوبا بالترف المادي والحضاري وهذا ما لاحظناه في كل الحضارات، فهل وصلت الحضارة الأمازيغية إلى هذا الترف ؟ * لقد عاش الأمازيغ أي اللوبيون كما سماهم هيرودوت في منطقة جغرافية شاسعة تمتد من مصر إلى الأطلس وفي هذه الرقعة قبل دخول الرومان، كان اللوبيون يعيشون في سلام ووئام وبنوا عدة حضارات منها الأهقار والتاسيلي، وحضارة الحنشيين وحضارة وهران وتغنيف، كما أن الظروف المناخية للأسف الشديد لم تترك في هذه المنطقة أدلة كثيرة لحد الآن على حضارات ربما طمرت تحت الرمال في هذه المنطقة، فعلى سبيل المثال عندما ننظر إلى ضريح الملكة تينهنان في الأهقار وطريقة بنائه ودقة صقل حجارة البناء لا يمكن إلا أن نتصور بأن لهذه الملكة قصورا وبناءات في مستوى ذلك الضريح أوأكثر فخامة منه. كما أن هناك دليلا آخر وهو سرعة المساهمة في الحضارة الفرعونية والحضارة القرطاجية من طرف أولئك الأمازيغ "اللوبيين"، كما نجد نفس السرعة في بناء الحضارة النوميدية فذلك الاستقرار وهذا الاحتكاك بالحضارات الأخرى وبناء حضارات على أرضهم هو دليلنا على أن الرقي الموسيقي كان فعلا مسايرا للرقي الاجتماعي "الثقافي" والعمراني الذي نجده لحد اليوم في قصور وقلاع بمنطقة الأوراس وفي منطقة الحضنة "أمدوكال" وفي الغرب الجزائري كما في الجنوب، وما يخصنا اليوم هو أن تقوم الدولة الجزائرية بمسح جوي لكل التراب الوطني علنا نكتشف آثارا مطمورة يمكن أن تقلب التاريخ. - من الملاحظ أن الإنسان الجزائري الذي دوّن يومياته على صخور الطاسيلي وأيضا بالساورة وبمختلف المناطق الجزائرية خصوصا تلك اليوميات المتعلقة بالصيد، فهل أشار هذا الجزائري إلى الفن في رسوماته وطقوسه الدينية الجنائزية منها والأفراح، وهل كان لديه موسيقى عبر بها مثلما عبر لنا من خلال يومياته الصخرية ؟؟ * فعلا لقد كان الإنسان القديم ما نراه فعلا على الرسومات الصخرية في الجنوب كما في الشمال ولحد الآن نجد انه سجل بإمكانياته الخاصة للموسيقى في منطقة الطاسيلي غناء السبيبة كمجموعة، ولعل الجنوب يكتنز أسرارا أكثر لو قمنا بمسح تلك المناطق. - الأغنية الامازيغية تتميز بأنها أغنية جماعية رغم أن الفردية هي الأسبق كما سبق وأن ذكرتم، فهل هناك ما يحفظ لنا الأغنية الفردية القديمة من كلمات وإيقاعات موسيقية ؟ * للأسف الشديد أن الغناء الفردي مرتبط بالفرد، فبزواله يمكن أن يزول غناؤه، لكن عند كل المجتمعات يبقى أثر الغناء الفردي في من يحيطون به وتتناقله الأجيال تلو الأجيال، ويمكن من خلال دراسة كلمات الأغنية ودراسة موسيقاها أن نكتشف في أي عصر وجدت هذه الأغنية، فعلى سبيل المثال توجد في منطقة الأوراس إلى حد اليوم أغنية تقول: "الصلاة على النبي محمد وعلي "فهذه الأغنية من خلال هذه الجملة فقط نكتشف أنها وجدت في عصر الدولة الفاطمية الشيعية، فلا يوجد لا من قبل ولا من بعد هذه الدولة من يقرن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصحابي علي كرم الله وجهه إلا الشيعة. - لا أحد ينكر البعد الفني في تراثنا الثقافي لكن أبوليوس كتب باليونانية كتابه "التحولات" و"الأزاهير" وكشف لنا عن فكر ناضج وفلسفة عميقة وحب للقانون والنظام وكان يسمى بالإفريقي، فهل ذكر لنا الموسيقى والغناء في تحولاته وأزاهيره ؟ * أبو ليوس المداوروشي هو أول من كتب الرواية في تاريخ الإنسان كما أشرتم وعنوانها "الحمار الذهبي" ومن خلال روايته نعرف أنه كان مثقفا ومناهضا للرومان وقد أفصح فعلا على موسيقية بما بثّه في آخر الرواية من أسماء للمقامات الموسيقية ودلالاتها الخاصة بالتأثير، فلا يمكن لروائي لا يعرف الموسيقى أن يكتب عن المقامات بتلك الصفة. - نعود إلى تراثنا الحديث (العربي الإسلامي) الذي تشكّل خلال التلاقح الأندلسي المغاربي، فكلمة "المداح" و"القوال" و"البراح" وغيرها من المصطلحات هل لها ارتباطها بعمقنا وتراثنا الأمازيغي مثل "التويزة " و"الجماعة" أم أنها لقاح ما بين العربي والأمازيغي خصوصا التشابه في بناء القصيدة الشعرية والمقامات الموسيقية وحتى الإيقاعات السريعة والبطيئة ؟ * منذ دخول الإسلام إلى الشمال الإفريقي وقع هناك مع مرور الزمن تلاقح ثقافي بين ما كان للأمازيغ وما جاء به المسلمون خاصة أن أولئك المسلمين ليسوا من بقعة واحدة، فمنهم اليمني والحجازي، ومنهم الفارسي والمصري القديم والعراقي والشامي، وأثناء الحضارة الأندلسية نجد أن هذا التلاقح هو الذي أوجد الحضارة الأندلسية التي أبهرت العالم حتى اليوم، فإلى جانب زرياب القادم من بغداد نجد عباس بن فرناس التكرني الأمازيغي، لقد كان الأجداد ينظرون إلى الإسلام كأساس موحد بالدرجة الأولى، وينظرون للغة بأنها لغة القرآن الكريم، وعلى هذا الأساس نجد أنّ الشمال الإفريقي حافظ على لغة القرآن وعلى الإسلام ربما أكثر من إخواننا المسلمين في فارس وما بعدها. هذا لا يمنعنا من القول بأن جل الثقافة الأمازيغية وتراثها حطم أثناء الغزو الروماني المقيت وبعده الوندال ثم البزنطيين، فلم يكتفوا بتدمير مدن بكاملها، بل من طبيعتهم بناء مدنهم على أنقاض المدن السابقة مثلما فعلوا بمدينة قرطاجة، وعلى ذكر قرطاجة فإن الرومان أحرقوا كل ما وجدوه من كتب القرطجيين إلا كتاب واحد أخذوه وهو كتاب الفلاحة، فلا نستغرب أنهم فعلوا نفس الفعل مع كل منطقة داسوها. في اعتقادي أن المداح والقوال وغيرها انتشرت في العصر الإسلامي لأنها وسيلة إعلامية لذلك العصر، ولا أستبعد أنها كانت موجودة قبل ذلك، أما التويزة والعمل الجماعي فهو من سيمة المسلمين جميعا وذاك من خاصية الأمازيغ، والدليل على ذلك حفر "الفقارات" في الجنوب الجزائري والحصاد من قديم الزمن. وبالنسبة للشعر وخاصة العلاقة بين الشعر الشعبي والشعر الأمازيغي، فهناك في رأيي علاقة وطيدة جدا خاصة فيما يعرف بالتقطيع الداخلي للمقاطع حيث أن فكرة المقطع في الشعر الشعبي هي نفس الفكرة في الشعر الأمازيغي، كما أن الموسيقى الداخلية عند استماعنا لهذا أوذاك هي نفسها ونحس بها حتى لو لم نعرف هذا الشاعر أوذاك. أما بالنسبة للإيقاعات الموسيقية فهناك ثروة كاملة حيرت حتى خبراء الإيقاعات الأجانب، وهذه الثروة هي إيقاعات أمازيغية وإسلامية بدليل أن هناك إيقاعات لا توجد إلا في الشمال الإفريقي، كما أننا لا ننكر أن هناك إيقاعات وافدة مثل إيقاع "الهدي" في العاصمة والذي يوجد في الخليج وفي الهند، وأعتقد أن التسمية حرفت من الهندي إلى الهدي، وأستغرب لبعض شبابنا الذين يلجأون إلى إيقاعات غربية بينما لديهم كل مايحتاجونه في تراثهم الموسيقي. - هناك عدة طبوع وتنوعات غنائية وموسيقية في الجزائر خصوصا في الجنوب، فهل هناك امتدادات لهذه الطبوع إلى عمق القارة الإفريقية أم هي خاصة بالتراث الجزائري ؟ * أنواع الغناء الموجود في الجزائر هو أمازيغي وإسلامي، فما هو ضارب في التاريخ فهو أمازيغي، وما أستحدث بعد دخول الإسلام فهو تلاقح بين الأمازيغي وغيره، وامتدادات أنواع الطبوع في الجزائر وصلت إلى جميع دول الساحل، على سبيل المثال غناء "الهول" في تندوف بالحسانية، وغناء "التيندي" و"الأمزاد" في الأهقار والطاسيلي، وهناك تبادل بيننا وبين إخواننا في كل من ليبيا وتونس والمغرب الأقصى في بعض الأنواع، فتأثير الموسيقى الجزائرية جنوبا أمتد من السينغال مرورا بشمال نيجيريا إلى حدود السودان ومصر، بل ومن الغريب أن المستعمر الفرنسي أخذ عدة إيقاعات من موسيقى جزائرية ونسبها لنفسه في القرن الماضي مثل "إيقاع تويست" فلم يكن هذا الإيقاع معروفا في أوروبا بكاملها، بل أخذوه من شمال إفريقيا. - تم تدوين الكثير من الفنون العلمية والأدبية، فهل هناك شيء من هذا القبيل فيما يخص تراثنا الموسيقي؟ وهل هناك مخطوطات ومدونات تشير إليه قديما؟ وهل هناك أعمال جردية معاصرة تقوم بفهرسته وحفظه قبل التلاشي في التسارع التكنولوجي والهطول القوي من الفضائيات ؟ * بالنسبة لبعض ما كتب عن الموسيقى فهو مدون في المخطوطات والكتب خاصة في العصر الأندلسي، فكانت الكتابة عن الموسيقى تعني الموسيقى في الأندلس وفي شمال إفريقيا لأنهما كانا على صلة دائمة، بل أغلب سكان الأندلس نزحوا من شمال إفريقيا كما بين ذلك الدكتور بوزياني الدراجي في كتابه "القبائل الأمازيغية"، وهناك موسوعة موسيقية للعلامة التيفاشي الصفاقسي في تونس وهو من منطقة تيفاش بين سوق هراس وقسنطينة حاليا، وقد بدأ الدكتور محمود قطاط في تحقيق البعض منها، كما نجد في فترة الاستعمار الفرنسي كتاب "كشف القناع عن آلات السماع" وبعد استعادة السيادة الوطنية كان من الواجب علينا أن نسارع إلى تدوين موسيقانا مادة وتاريخا حتى نحفظ للأجيال اللاحقة ثروة عظيمة، وللأسف وقعنا في الأسبقيات وترك هذا المجال في بعض الأحيان لأناس لا يعتقدون بأن الأعمال الموسيقية جزء من الثقافة الوطنية، بل جزء هاما من التاريخ العام لهذا الوطن. - هل وجد الغناء الديني في تراثنا الفني ؟ * الغناء الديني وجد منذ وجود الإنسان على البسيطة، فالانسان القديم غنى لمعتقداته من أشجار وأحجار وكواكب إلى غيرها، انتقل إلى الغناء للمعبودات الأسطورة كما عند الهنود أوالمصريين القدامى وغيرهم، وبالنسبة للجزائر لا ننكر أن الغناء الديني امتد إلى من اعتنق الديانتين اليهودية والمسيحية، ولكن، هذا واضح من خلال التاريخ أن الغناء الديني تطور تطورا كبيرا جدا في الفترة الإسلامية نظرا لاعتناق المنطقة كلها الإسلام وإخلاص أهلها للإسلام كرسالة سماوية، ونلاحظ أن الغناء الغزلي في شمال إفريقيا وإلى تاريخ قريب كان دائما غزلا عفيفا، بل يجعل المرأة في مستوى راق محترم ويرمز لها بما يراه جميل مثل الغزالة، الشمس، النخلة وغيرها، وهذه ربما من المميزات الخاصة بهذه المنطقة. - كانت الجدات أديبات ومؤدبات وراويات للقصص والشعر أمام مدافئ الشتاء المثلج الممطر، فهل تم البحث عن بقايا هذا التراث من القصص ؟ * لقد كانت الأم والجدة في تاريخنا منذ القدم هي مخزن العطاء الثقافي وبالدرجة الأولى في القصة والغناء، فقد كانت الأم والجدة هي التي تروي القصص للأطفال في ليالي الشتاء وقمر الصيف حتى يناموا كما كانت هي الفنان المبدع الذي "يهلل" ويغني للأطفال حتى يناموا، وهذا النوع من الغناء موجود في بعض المناطق من الجزائر، لكن للأسف نعترف بأن التلفزيون أصبح هو الجدة وهو الأم، لكن بما فيه من سالب وموجب، فقد سرق التلفزيون من الجدة "نهنينيها" وغنائها للأطفال، كما سرق وهذا ربما أخطر الغناء الذي يبدعه الأطفال، الدفء العائلي وصار هو محور السهر، فلا نقاش ولا حراك، إلا بالنظر إليه. فالحلقات العائلية والحوار كل مساء داخل العائلة افتقدناه أباءً وبنينَ وهيمن علينا التلفزيون بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، فآمل أن يسارع إلى تسجيل كل التراث الجزائري، بما فيه الموسيقى لحفظها لأجيالنا القادمة، حتى لا تتهمنا بأننا أجرمنا في حقها.