احتضنت قاعة "ابن زيدون" أمس العرض الشرفي الأول لفيلم "العدوّ الحميم" للمخرج الفرنسي ذي الأصول الايطالية فلورون سيري، والذي أحدث ضجّة عند عرضه في فرنسا حيث اعتبر من أولى الأفلام الفرنسية التي خاضت "بشجاعة" في حقبة مغمورة ضرب عليها الصمت لسنوات طويلة· العمل تحفة فنية حقيقية من الناحية التقنية وهي نظرة "موضوعية إلى حد بعيد" بالنسبة لمخرج فرنسي في كشف معاناة الجندي الفرنسي المشارك في الحرب بالجزائر، لكنّه بالمقابل هو تحريف صارخ وإخفاء للكثير من الحقائق بالنسبة للجزائريين وتزييف للواقع حيث قلبت الأدوار ليصبح الظالم مظلوما وصاحب الحق هو الملام !!· عند مشاهدة فيلم "العدوّ الحميم" تعود إلى الأذهان صورة ذلك الجندي الفرنسي الذي يأتي من العدم إلى قرية جزائرية مهجورة ليخرج الأهالي من مخابئهم التي لجأوا إليها خوفا من "الفلاقة"، فيلتفون حول الجندي للاستماع إلى حديثه عن السلم، الذي كانت تبثه السينما الكولونيالية في عهد الاستعمار الفرنسي عبر أفلام ك"المدرسة العسكرية"، "قانون تايلون" و"الوحدة الفرنسية "··وغيرها من تلك الأعمال التي أنجزت خصيصا من أجل تلميع صورة الجيش الفرنسي على حساب صورة المجاهدين الجزائريين، ومن أجل إبعاد الشعب الجزائري عن الثورة وتشكيكه في نوايا قادته· هو الخطاب نفسه الذي سعى فلورون سيري إلى إعادة إنتاجه من جديد في خضم الموجة الجديدة لأفلام الحرب التي ظهرت في فرنسا مؤخرا، مع إضافة بعض العناصر الجديدة التي حسبت لصالح المخرج كإبرازه لعمليات التعذيب والإبادة الجماعية التي ارتكبتها فرنسا والتي سعى الفيلم إلى جعلها مجرد دفاع عن النفس وردّ فعل طبيعي للفرنسيين عن بشاعة الجزائريين أو"الأفلان" ليس مع الفرنسيين فقط بل وحتى مع أبناء جلدتهم · قصّة الفيلم تنطلق ببطء في منطقة من جبال القبائل بالجزائر (تصوير الفيلم كان في المغرب)، حيث تكشف عن كتيبة عسكرية تضمّ فرنسيين وجزائريين يحاربون جنبا إلى جنب ضد "الفلاقة"، لتبدأ الأحداث في التسارع مع مجيء العقيد الجديد "تريان" (بنوا مجيمال) الذي وسمته كاميرا فلورون بأسمى صفات النبل والشهامة والعدالة··فيرفض في البداية السياسة التي يعتمدها الجيش الفرنسي في تعامله مع الأهالي الجزائريين وخاصة مع النساء والأطفال، يقف ضد "الوحشية " التي يتعامل بها "الحركى" الذين كانوا أكثر حيوانية من الفرنسيين طبعا - مع أبناء جلدتهم، وهذا عبر العديد من اللقطات القوية في الفيلم بداية برفضه ضرب "رشيد" الحركي لأخت وأخ سليمان (الجزائري الذي هرب من الجيش الفرنسي وانضم إلى "الأفلان") من أجل دفعهما للكشف عن مخبأ أخيهما، كذلك تبنّيه للطفل (شقيق سليمان المطارد) بعد أن أبادت الجبهة كلّ قريته نساء، رجالا وشيوخا· في لقطة مروّعة أرادها المخرج أن تكون قوية التأثير، ثمّ رفضه تعذيب الجزائريين الأسرى من أجل تحصيل المعلومات، وإصابته بالذعر بعد قتله لامرأتين جزائريتين ظنّ أنّهما من "الفلاقة"، ويذهب لدرجة التساؤل عن سبب إعطاء فرنسا الحرية لتونس والمغرب دون الجزائر، وعن سبب استمرار المعارك وعدم المساواة بين الجزائريين والفرنسيين إذا كانت "الجزائر حقا فرنسية"···· لكن كلّ هذا سيتغير بسبب عنف ووحشية "الأفلان" الذي لم يكتف بإبادة قرية بأكملها ولكنه سعى حتى لذبح جريح فرنسي بل وميت ··· لتتغير نظرة العقيد "الخيّر" للأشياء ويتخلى عن صراعاته الدائمة مع الرقيب ويصبح هو الآخر يتعامل بنفس الطريقة مع الجزائريين · الفيلم يحمل الكثير من الرسائل المشفّرة بداية بتبرير تصرّفات الجيش الفرنسي في الجزائر والتي أبرزها المخرج كمجرد ردّ فعل على تصرّفات أكثر وحشية من طرف "الأفلان"إلى أمره بالإجهاز على قرية بأكملها انتقاما لكرامة أصدقائه يقال أنهم ذبحوا في كمين·الفيلم فيه كذلك تبرير لموقف الحركى والذي جاء هو الآخر كرد فعل على إبادة " الأفلان" لأهاليهم، وهذا ظهر جليا في اللقطة التي رفض فيها الرقيب إطلاق النار على الأسير الجزائري (محمد فلاق) بعد أن ارتدى هذا الأخير القلادة التي سلمتها له فرنسا جزاء مشاركته في حربها ضد ألمانيا، لكنه يقتل بيد سعيد "الحركي" ثأرا لعائلته التي أبادها "الأفلان" لتصبح الثورة الجزائرية تحت ضوء كاميرات فلورون حرب عصابات وتسوية حسابات، بل وأبرز أنّ كلّ أهالي منطقة القبائل كانوا "حركى" ووقفوا طوعا مع فرنسا · فحسب فيلم " العدوّ الحميم " ما قام به الجيش الفرنسي في الجزائر كان اضطرارا وليس اختيارا، فلم يكن على الجزائريين أن يحاربوا للدفاع عن أرضهم لأنّها أرض فرنسية وكان لابدّ عليهم أن يعيشوا في سلام جنبا إلى جنب مع الأم فرنسا وهذا ما سبب كل المشاكل، وخلق بالمقابل نوعا من العذاب النفسي وتأنيبا لضمير الجنود الفرنسيين، دفع بالرقيب إلى أن يعذّب نفسه بنفس الطريقة التي كان يعذب بها الجزائريين، وهو ما دفع بالعقيد "تريان" للعودة إلى الجزائر بعد أن سافر إلى فرنسا لزيارة زوجته وابنه وذلك دون لقائهما، ليتلقى في الأخير رصاصة من نفس الطفل الجزائري "ناكر الجميل" الذي رعاه وحماه من وحشية" الافلان"، فيموت مطمئنا لأنه لم يعد باستطاعته العيش بالشخصية الجديدة التي دفعته إليها الحرب في الجزائر دفعا· وأن لم يكن بوسعنا أن نلقي باللائمة على مخرج الفيلم الذي قدّم رؤيته كفرنسي للأشياء بل واجتهد في إبراز بعض ما ارتكبته الترسانة الاستعمارية الفرنسية من مجازر في حق الجزائريين ولو بتبرير مسبق، لكن ما لا يمكن قبوله هو مشاركة الجزائريين في هذا العمل لا سيما الفنان المعروف "محمد فلاق" الذي رغم ظهوره القصير في العمل إلاّ أنّه لخّص رسالة الفيلم والهدف من إنجازه في جملة واحدة وهي" المشاركة في حرب الجزائر مثل السيجار الذي يمسك من الوسط ويشعل من الطرفين "بمعنى أنّ الجزائري سيكون هو "الخاسر" سواء كان مع الفرنسيين أو مع " الأفلان" لأنه سيخسر جزائريته ولن يصبح أبدا فرنسيا·