شهدت قاعة إبن زيدون برياض الفتح، نهاية الأسبوع، العرض الأول للفيلم الفرنسي »العدو الحميم« أمام حضور مكثف لأهل السينما والسلك الدبلوماسي الفرنسي بالجزائر وكذا الأسرة الثورية في الجزائر، يتقدمهم علي هارون ولويزات إغيل أحريز. الفيلم من إخراج الفرنسي فلوران إيمليو، يروي قصة الملازم تيريان الذي تسلم قيادة منطقة »تايدة« بالقبائل عام 1959 الذي قذفت به الحرب في واقع آخر غير ذلك الذي كان يصوره الإعلام الفرنسي عن الجزائر ودور الجيش الفرنسي في الجزائر، فيدخل في صراع مع الرقيب دونياك الذي يفهم الحرب على أنها منطق العنف وكفى. رغم كون »العدو الحميم« أول فيلم فرنسي يصور مشاهد التعذيب بالنبالم والحرق الجماعي الذي كانت فرنسا تمارسه في حق الجزائريين، غير أنه، ومن جهة أخرى، وفي الكثير من المشاهد، حمّل جبهة وجيش التحرير الكثير من الأخطاء والتجاوزات ووضع عنف الفرنسيين وعنف المجاهدين في كفة واحدة، فمن جهة بالغ المخرج في تصوير حساسية الجندي الفرنسي تيريان الذي لا يتحمل مشاهد التعذيب ولا العنف الممارس ضد النساء والأطفال، لكن نفس الفيلم يصور وحشية المجاهدين في ممارسة المجازر الجماعية في حق المتعاونين مع الفرنسيين لحد ذبح الأطفال والنساء وكذا معاقبة كل المدخنين والوشاة بتشويه الوجوه وقلع الأنوف. من مشاهد الفيلم مثلا، الجندي الفرنسي يقدم على إنقاذ طفل من البئر الذي ألقي فيها من طرف المجاهدين ويرعاه الفرنسيون في الثكنة ويتعلم الرماية ثم في الأخير يهرب ليقتل الجندي الفرنسي الذي أنقذه. الفيلم الذي رفع لذاكرة 2 مليون جندي فرنسي قتل في حرب الجزائر، يشكك في عدد المجاهدين الذين عدّهم بين 300 و600 ألف شخص. كما صور المخرج أيضا دور الحركي في حرب الجزائر من خلال مشهد يصور إقدام الحركي على قتل السجين الذي يطلق سراحه الفرنسي الذي يكتشف أنه شارك في حرب فرنسا ضد الألمان. زهية منصر مخرج »العدو الحميم« "فلوران إيمليو سيري"، للشروق: »فرنسيا تعيش أمنيزيا مع ماضيها في الجزائر والفرنسيون لا يعرفون التاريخ« أكد فلوران إميليو سيري، مخرج »العدو الحميم« في الحوار الذي أدلى به للشروق، أن فرنسا مازالت غير مستعدة نفسيا للاعتراف بما حدث في الجزائر، وأن الأجيال الجديدة في فرنسا لا تعرف الشيء الكثير عن حرب الجزائر. * بداية هل يمكن للعدو أن يكون حميما وما هي رسالته؟ ** في هذا الفيلم أردت أن أنقل الجوانب الإنسانية، أردت أن أقول إن الحرب قذرة ومدمرة للإنسانية والإنسان عبر ما تخلقه من تشوهات داخلية بإيقاظ الجانب الحيواني لهذا يصير العدو حميما، لأن في الحرب العدو ليس فقط الآخر، لكنه أيضا الأنا الإنسانية التي يقمعها العنف والحرب، فمع كل طلقة للجندي على الآخر هي في الحقيقة طلقة ضد إنسانيته ونفسه... * الفيلم يطرح قضايا مثيرة للجدل، على أي أساس تاريخي اعتمدت؟ ** اعتمدت على كتاب باتريك روتمان الذي يعرف الكثير عن موضوع حرب الجزائر الذي اشتغل حوله مدة 30 سنة وسبق له أن أنجز شريطا بنفس العنوان »العدو الحميم« عام 2002 احتوى شهادات لأناس عاشوا الحرب، بعض هذه الشهادات عصيّة على التصديق لما احتوته من أشياء مرعبة عن التعذيب. * لماذا فيلم عن حرب الجزائر في هذا الوقت بالذات؟ ** في فرنسا بالنسبة لجيلنا لا نكاد نعرف شيئا عن حرب الجزائر، الموضوع مايزال طابو كبيرا. وكان من حظنا أن التقينا بغولدمان، لقد كافحنا 5 سنوات من أجل البحث عن موارد مالية خاصة لإنجاز العمل، لأن الأفلام التي تناولت حرب الجزائر في فرنسا قليلة جدا أغلبها أفلام مناضلة. أنا لم يكن يهمني النضال بقدر ما كان يهمني إبرز رفض الحرب من منطلقات إنسانية. عندما خرج الفيلم إلى القاعات الفرنسية كان جيلا كاملا يكتشف أشياءً لا يكاد يعرف عنها إلا النزر اليسير، لم يكن يعرف الفرنسيون أن ما حدث في الجزائر فعلا حرب حقيقية، لم تعترف بها فرنسا إلا في عام 1999. * الفيلم يدور حول حرب الجزائر، لكنه صور في المغرب. لماذا؟ ** المسالة اقتصادية بحتة ولا علاقة لها بأي تأويل سياسي. فعلا جئنا إلى تيزي وزو وقمنا »بكاستينق« لاختيار الممثلين وكنا نرغب في التصوير هنا على اعتبار أن أغلب الممثلين الجزائريين المشاركين في العمل ينحدرون من هناك، ولكن ميزانية الفيلم لم تكن تسمح بذلك »حوالي 8 ملايين يورو« وهي ميزانية قليلة بالنسبة لأفلام الحرب، لذا كنا نركز على مسألة مهمة تقتضي الاستفادة بأكبر قدر ممكن من التقنيين المحليين لتوفير المال، والمغرب يملك في هذا الإطار تجربة تقنية كبيرة في العمل مع الأمريكيين والفرنسيين. * وهل كان أيضا التركيز على منطقة القبائل خارج السياسة؟ ** لا أبدا لم يكن هناك طرح سياسي، كل ما في الأمر أن أحداث الفيلم تدور في عام 1959 وهي أعنف مرحلة حرب شهدتها منطقة القبائل، كما أن المنطقة فتحت في ذهني كفرنسي آفاقا أخرى للعمل السينمائي، خاصة إذا تعلق الأمر بحرب الجزائر التي تحيل مباشرة في ذهني أي فرنسي على الصحراء والأراضي القاحلة، فأردت عبر هذه البيئة التي جمعت الخضرة بالجبال، أن أخلق واقعا موازيا يشبه الحقيقة لإعادة إنتاج الحدث التاريخي سينمائيا من شأنه أن يضع هذه الشخصيات في سياقها، أردت أن أبرز مفارقة بين جمال الطبيعة وبربرية الإنسان الذي حولته الحرب إلى آلة مدمرة لصناعة الموت والتخريب. * هل تجد من الطبيعي أن تساوي بين الجلاد والضحية؟ ** هناك عنف مارسه الجيش الفرنسي مدعما بالوسائل التكنولوجية، ولكن أيضا هناك عنف مضاد من الطرف الآخر وهذا منطق الحرب وطبيعي جدا. فكما حاول الفرنسيون استمالة السكان، حاولت جبهة التحرير أن تثني السكان على اتباع الفرنسيين وفرض عقوبات كانت تراها الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتحقيق الهدف. وإذا كنت تقصدين اللقطة التي تبرز ذبح سكان القرية من طرف المجاهدين، فهذه حقيقة تاريخية يرويها الكثير من المؤرخين، وإن كانت لا تعجب البعض. وحتى استعمال النابالم من طرف الجيش الفرنسي عندما عرض الفيلم هناك العديد من العسكريين السابقين في فرنسا رفضوا الاعتراف بهذه الحقيقة. * وماذا عن التشكيك في أرقام المجاهدين هل هي أيضا حقيقة تاريخية؟ ** في فرنسا أثارت الأرقام لغطا كبيرة ونقاشا حادا بين المؤرخين. ولكن دعيني أقول لكِ أن الأرقام لا تهمني كثيرا، ما الفرق أن تقتل الحرب 300 أو مليون أو حتى مليونين... المهم أن الحرب قذرة وغير إنسانية هذا ما أردت التركيز عليه وتبيانه. * »العدو الحميم« طاف بقاعات العالم وعاد بالجوائز من عدة مهرجانات، لكنه مستبعد من مهرجان »كان« وحتى من جوائز »السيزار«. لماذا؟ ** لا أعلم كيف أجيب على هذا السؤال. حقيقة لا أدري. كنت أود لو رشّح العمل فعلا لأحسن إخراج أو حتى التمثيل، لكنه لم يختار في »كان« واكتفى بالترشيح لثلاث جوائز تقنية في السيزار، ربما لأن المهرجانات الفرنسية اليوم أصبحت تفضل أفلاما معيّنة، تعلمين أن السوق الفرنسية اليوم في السينما أصبح فيها من السهل على الناس أن يقدموا فيلما عن الكوميديا والخيال أفضل من أفلام الحرب، لأنه لا أحد يرغب اليوم بالبحث في التاريخ ونبش الماضي. الشباب الفرنسي اليوم يهمه أن يتتبع أخبار ساركوزي وكلا بروني، على الماضي بين الجزائروفرنسا. * ربما أن فرنسا لا تريد تكرار ما حدث مع فيلم »أنديجان« في كان منذ سنتين، أو لأنها لا تريد الاعتراف بما حدث في الجزائر؟ ** فرنسا فعلا لديها مشكل مع ماضيها في الجزائر، لا توجد هناك رغبة حقيقة أو إرادة سياسية في الاعتراف بما حدث. هناك رغبة في النسيان أو الدفع في اتجاه النسيان. »العدو الحميم« عندما خرج إلى القاعات الفرنسية لم يستقبله السياسيون بحفاوة، كما حدث مع »أنديجان«، لأن هذا الأخير قدم الوجه الإيجابي لفرنسا الاستعمارية، بينما »العدو الحميم« يقدم الوجه الآخر لفرنسا القذرة. السياسيون لم يريدوا أن يثير الفيلم نقاشا، لذا ربما تجاهلوه، لأننا حاولنا استقدامهم للعروض لكننا فشلنا. حاولنا مثلا توجيه دعوة للوزيرة رشيدة داتي مرتين وفشلنا. حاولنا تقديم الفيلم للسيناتور، لكن هناك من قال لنا إنه »عنيف جدا بالنسبة لسيناتور«... وحتى أن هناك حصة تلفزيونية لم ترد مناقشة الفيلم عندما كنا نقوم بحملات ترويجية للعمل وقالوا إنهم يفضلون تقديم الأشياء الممتعة للناس على أفلام تحكي رعب الحرب. * هل يعني هذا أنك تحمّل السياسيين مسئولية المؤرخين؟ ** الحمل ثقيل جدا على الأجيال الجديدة، خاصة التي لا تعرف الكثير عن تاريخها. وعلى السياسيين أن يتخذوا مواقف شجاعة تجاه هذا الماضي ويقوموا بعملهم. نحن فنانين وسينمائيين نقوم بما نستطيع وبما توفر لدينا من حقائق. نحن مثلا في فرنسا لا نفهم لما يقول ساركوزي بإيجابية الاستعمار، لا نفهم كيف تفتخر دولة ما بالتعذيب... هذا لأننا لا نعرف الكثير عن إفريقيا السوداء أو إفريقيا الفرانكفونية، لا نعرف الشيء الكثير عن حرب الجزائر، رغم أنها جزء من تاريخنا أيضا. كفرنسيين لا نفهم فعلا لمَ لا يتحدث السياسيون بوضوح عن هذه الأشياء، ينبغي اليوم على رجال السياسة أن يدفعوا بالأمور في الاتجاه الإيجابي للنقاش والصراحة، وطالما بقينا اليوم نتحدث عن الاستعمار الإيجابي، وطالما بقينا نرفض النظر مباشرة في وجه الأشياء، لا يمكن أن تسير الأمور في الاتجاه الصحيح. * باعتقادك، كيف يمكن لهذه الأجيال الجديدة اليوم أن تتجاوز الماضي؟ ** يجب على هذه الأجيال أن تتخذ أيضا مبادرة شخصية وتدفع من جهتها السياسيين لفتح النقاش والحديث بصراحة، لأن الصمت لا يمكنه أن يحقق شيئا وحده. الحديث والبوح قد يكون علاجا نافعا للذاكرة والنفس. على كل من يملك حقيقة مهما كانت أن يبوح بها، أن يطرحها على طاولة النقاش والبحث، لأن الصمت لا يقدم أكثر من تخزين الرعب والحقد الذي يقف في طريق الأجيال والعلاقة بين الضفتين، لأن نتائج الماضي المشترك بين البلدين مازالت ماثلة اليوم في الحياة اليومية حتى للفرنسيين. حوار زهية منصر/ تصوير يونس أوباييش