صدرت مؤخرا عن دار فيسيرا للنشر، رواية تحت عنوان ''جبل نابليون الحزين'' للروائي شرف الدين شكري. ما تزال العشرية السوداء، كما يحلو للبعض تسميتها، تثير المزيد من البحث في هذا الجرح والذي ما تزال مواقعه الضحلة لم تجفف بعد، أسماء أدبية كثيرة تم إخمادها وأخرى توارت كالطيور المهاجرة في موسم الجفاف والقحط إلى الضفة الأخرى، فيما بقيت بعض الأسماء تراوح مكانها بحذر وألجمت أقلامها خشية من الإدانة والاتهام، بينما بقي البعض الآخر يراقب الأزمة في صمت واندهاش. لم تكن هذه الفتنة التي أتت على الأخضر واليابس، مجرد صراع سياسي أو ثقافي، بل كانت صراع مفاهيم و''إيديولوجيات'' وتفويت هذه الاديولوجيات حتى وإن اقتضت الضرورة اعتماد العنف والتصفيات الجسدية. فالمتجول في الروايات الصادرة على الطريق السريع للأزمة والتي عرفت بروايات العشرية السوداء، يستطيع أن يرصد هذا الإنتاج السريع والسطحي، حيث يستقرئ العشرية استقراء إيديولوجيا ويحاول أن يوجه الأحداث حسب هواه السياسي والعقائدي، ولا يبحث في مفاصل الأزمة وبعدها الزمني والفيروس الذي أصاب هذه الأمة وأفقدها الكثير من قوة مناعتها التاريخية والثقافية والعقائدية. من هذا التداخل وهذه الفوضى، تتولد الأسئلة التي تصنع بنايات قديمة وحديثة، وتلونها حسب التشبع والرؤية التي استندت إليها، خصوصا تلك الأفكار التي تمت ترجمتها وإن صح التعريف ''التعريب التغريبي''، من هنا ينظر البعض للمأساة وللحفر الناتجة عن ارتطام الانزلاقات الفكرية ببعضها البعض والحديث عن الخسائر التي تحدثها هنا أو هناك. الرواية ''جبل نابليون الحزين'' تفتتح هذا الجرح بنص فلسفي كمقدمة بعد الإهداء المرفوع لقائمة الذين ابتلعهم جرح الأزمة، بدءا من إسماعيل يفصح، بختي بن عودة، جيلالي اليابس، طاهر جاوت، عز الدين مجوبي، معطوب الوناس، يوسف سبتي، بل الى كل الذين وقفوا في مفترق الطريق واقتلعتهم عاصفة الأزمة المقدمة لم تعنون الا ببداية إهدائية ''إلى رفاقي الذين سقطوا ضريبة للعشرية السوداء.. إلى مالك حداد منظرا لكل الأزمنة الجزائرية«. النص الذي سبق افتتاح الرواية، بل استعمله المؤلف كمفتاح لها، وهو عبد الرحمان منيف المأخوذ من ''بادية الظلمات''، هو في حد ذاته يحمل أكثر من رمز ومعنى واتهام وفراغ وامتلاء بالرمل عندما يشرب البحر كل الخوف الذي تفتحه الصحراء، هذا البحر المتعالي، وتبقى الصحراء رغم الخوف الذي تثيره، إلا أنها هي أيضا قبة صالحة للتفكير والتأمل، وتتداخل الصحراء والبحر بين الصمود وطمع الطامعين والتصدي وغيرها من الأشياء المسكونة في التاريخ. تبدأ الرواية بسؤال: ''هل سينتهي الشقاء؟'' ثم تردفه بسؤال مشفر لا يمكن تفسيره إلا بمكتبة من الفلسفة ''أين يربض موتزارت في هذا الولد؟''، ثم سؤال أكثر سخونة والبعض ينعته بالجرأة والتحدي والقفز على الممنوعات ''من جاء بهذا العذاب إلى هذا الكون؟«... هي الفوضى إذن، التيه والضياع غير المرتب وغير المتدرج، بل الضياع المبعثر الذي يجري في كل الأمكنة، يرتشف سراب الأزمنة وما تحدثه من خداع فكري وبصري. الرواية ملغزة ملغمة، تحاول أن تستحدث لغة مستعصية تلونها بألوان الحداثة، وهذا ما نجده في الخلاصة التي تم تأطيرها في ظهر الغلاف، تحمل خرائط الأسئلة الصماء حيث يقول فيها المؤلف ملخصا كل جمل روايته فيها: ''هل كانت رغبتنا في التموّت الصموت هي الشفاعة الوحيدة التي أبقت علينا أحياء حتى هذه الساعة؟''، إلا أن المؤلف يمتطي الاستثناء بقوله ''... ولكن كثيرا منا مات حقا ولم يعد إلينا حتى الساعة؟«. ويقصد موت المنافي بعد موت الصمت واعتزال الكتابة، بل الاستقالة الجبرية منها. ثم يمضي المؤلف ليفسر هذه الفوضى ويسندها إلى القدر قائلا: '' لعبة القدر الأحمق، هي التي كانت تحركنا وهي لم تنته حتى هذه الساعة، الصدفة كانت أكثر حقيقة من الواقع ذاته''. ويختتم خلاصة موته بالقول: '' وبكل جوارحنا، كنا نعترف للآخر بموتنا فيه... صدفة!''.