إن انفجار المشاعر الوطنية في الجزائرالمحتلة لم يكن سوى نتيجة للسياسات التي كرسها النظام التعسفي للمستدمر الفرنسي عندما وضع شعبا بكامله في خانة ''العبيد'' وبعث روح العداء بممارسة أشد أنواع القهر والاضطهاد، وبهذا يكون قد صنع روحا وطنية انفجرت قواها الكامنة للدفاع عن الوطن في فجر الفاتح نوفمبر ,1954 حيث كانت وحشية فرنسا المدرسة التي أوحت الأبناء الشعب الجزائري الانتفاضة ضد إجرام مورس انطلاقا من أكذوبة ''الجزائر مقاطعة فرنسية ما وراء البحار''.. هكذا يختصر المجاهدان '' أحمد واندي'' و''علي بن محمد مزاورو'' ل''المساء'' قصة القيم الوطنية التي توغلت في الأسر الجزائرية لتسفر عن قيام ثورة تحريرية خلصت الجزائر من قيود لازمتها طيلة 132 سنة. ما تزال أجيال الأمس تتذكر حالات التعذيب وحرق الأراضي وتجويع الشعب وسجن الآلاف من المناضلين الرافضين لقيود الاحتلال الفرنسي في الزنزانات وإعدام العشرات من أبناء الشعب، مع ممارسة أقسى أنواع التعذيب النفسي في مختلف أنحاء الوطن من خلال تجريد المجاهدين من ثيابهم وعرضهم أمام مرأى الجميع خدشا لمشاعر أمهاتهم ودوسا على قيم المجتمع الجزائري المحافظ، مما ترك آثارا سيئة على نفسية المواطن الجزائري داخل الأسرة، فصار على يقين أن الدفاع عن الوطن هو السبيل الوحيد لاسترجاع الكرامة والحقوق المهضومة، وأن لغة الرصاص أبلغ تعبير عن مقت الشعب الجزائريلفرنسا المتوحشة. ظلم نشر مناشير الحرية ''كل الممارسات كانت تجزم بأننا لا نرقى إلى منزلة بشر بالنسبة لقوات الاحتلال الفرنسية''.. على هذا النحو استهل المجاهد علي بن محمد مزاورو حديثه مع ''المساء'' على اعتبار أن حب الوطن والدفاع عنه كان نتيجة حتمية لمشاهد الظلم التي طوقت حياة الجزائري في زمن الاحتلال. ويقول المجاهد الذي بدأ نضاله في سن الخامسة عشر مع حزب الشعب: ''لم تكن فرنسا تتعامل معنا على أساس أننا بشر، مما كان يسمح لها بسلب ممتلكاتنا.. وتشغيل الجزائريين بأجر جد زهيد مقابل فرض الضرائب. ويعود السيد علي بن محمد مزاورو، من مواليد 10 أكتوبر 1929 بأقادرية بالأخضرية، إلى طفولته ليروي بعض ظروف العيش التي جعلت روح الوطنية تسري في عروقه وتحثه على التفكير في الانضمام إلى مصاف المناضلين الذين كانوا يمهدون لثورة عظيمة..'' فيروي: ''قصدت بيت عمي بالعاصمة في سنة 1939 بحثا عن العمل، فرغم صغر سني إلا أني كنت مضطرا لمساعدة والدي على تدبير المصروف، فأجر والدي لم يكن يتعدى 7 فرنكات فرنسية وقتئذ، وباشرت العمل ببيع الخس ثم صرت أبيع الزجاج والنحاس لصالح إحدى الفرنسيات، ومن خلال ما ربحته من أموال تمكنت من شراء حمار صرت أستخدمه في تجارة بيع الخضار برويسو.. وكانت هذه المعاناة من الأسباب التي حركت روح الوطنية لدى المجاهد علي بن محمد مزاورو، وولدت في أعماقه حقدا ضد المحتل المتعنت الذي زج بوالده في السجن سنة ,1936 فبمجرد أن حقق نوعا من الاستقرار المادي حتى اتصل بمجاهدين (02) ليقدم يد الدعم للمناضلين الذين كانوا يشقون طريق الحرية بسرية كبيرة خوفا من الوشاية. وحتى تسري قيم الدفاع عن الوطن الجريح في وسط الشباب وكافة أفراد الشعب الجزائري، كان محدثنا المجاهد ينشر سرا مناشير تروج لأفكار معادية للاستدمار الفرنسي، وتزرع أفكار تحرير الجزائر من واقع مرير... وبالنسبة له فإن هذه الروح بصيرة من الله لكل من يحمل قيم الإخلاص للوطن. وبعد أن انطلقت أول رصاصة نوفمبرية، خطط مناضل الأمس رفقة بعض رفاق دربه لقتل شرطي فرنسي متقاعد بواسطة أسلحة كانت مخبأة برويسو تحت سيارة محطمة، لكن تلقيه لخبر البحث عنه من طرف قوات الاحتلال الفرنسية، دفعه للتوجه من العاصمة نحو الأخضرية، حيث صعد إلى الجبل ليتولى مهمة تزويد المجاهدين بالسلاح، وبعدها أصبح مسؤول اتصالات لكن بعد مقتل جنديين فرنسيين إثر عملية قام بها المجاهدون في المنطقة، أصبح مجددا محل بحث من طرف قوات الاحتلال في حين ذاق أهله وزوجته مرارة التشرد والفقر. ..تتساقط دموع محدثنا وهو يتذكر والدته التي تعرضت لعملية استنطاق من طرف إدارة الاحتلال الفرنسي، حيث تم حلق شعرها كاملا وإسقاطها أرضا لذبحها بعد أن فشلت كل محاولات استنطاقها، إلا أنها قابلت الموت برفع إصبعها لأداء الشهادتين، فما كان من القائد الفرنسي إلا إن داس عليه، ليأمر بإطلاق سراحها لاحقا. كان ألم الظلم والتمييز هو الأداة التي شكلت في قلب العديد من الجزائريين روح عداء لا تؤمن بأن الجزائر جزء من فرنسا، برأي المجاهد علي بن محمد مزاورو الذي واصل كفاحه رغم كل المعاناة إلى أن ألقي القبض عليه في جوان من سنة 1958 ليزج به يوم 16 أوت من نفس السنة بسركاجي، حيث أمضى 23 شهرا (بعد أن حكم عليه بالإعدام سنة 1959) ليتم تحويله رفقة مجموعة من المساجين الجزائريين نحو فرنسا بعد اتفاق وقف اطلاق النار وبدء المفاوضات بين الطرفين الجزائري والفرنسي. كانوا يحدثوننا عن الحرية المسلوبة المجاهد ''أحمد واندي'' - من مواليد 16 سبتمبر 1925 - استقى دروس الوطنية من محيطه العائلي الذي يزخر بالأبطال والبطلات الذين جاهدوا بكل ما أوتوا من قوة.. وعن كيفية انتقال الروح الوطنية التي كانت تدب في أسرته المناضلة إليه، يقول: ''كان الكبار في المحيط العائلي يتحدثون مرارا عن ضرورة استرجاع الحرية المسلوبة من خلال الدفاع عن الوطن، لكن بسرية تامة لا تسمع بها حتى الزوجات أحيانا.. وكانت الأفكار الشائعة في المحيط الاجتماعي ككل ترسخ لدينا مقولة إن فرنسا تستهلك 95 بالمائة من خيرات الجزائر ولا تترك للجزائريين سوى 5 بالمائة.. كما كانت بشاعة جرائم الاحتلال الذي تفنن في ممارسة القتل الجماعي للجزائريين أمام أعين الأهل تهز الفؤاد للانتفاض، فهذه العوامل باجتماعها جعلت روح الوطنية تسري بكل تلقائية بين الأجيال''. على وقع هذه الحقائق المؤثرة والمؤلمة دبت روح النضال في فكر المجاهد أحمد واندي الذي استعرض ل ''المساء'' بعض تفاصيل قصة كفاحه وأقاربه، وهو يبكي تألما من ذكريات الماضي القاسية. بكل سرية بدأ محدثنا أحمد واندي نضاله في سن ال 12 أو سن الطفولة التي اختزلها الاستدمار الفرنسي، وهو يحمل في رأسه فكرة مكتسبة من المحيط الاجتماعي مفادها ''يجب أن نضحي نحن بأموالنا وأرواحنا لكي تعيش أجيال المستقبل . ''كان طريق الكفاح - يضيف محدثنا - محفوفا بأشواك المخاطر ووقع الأخبار المؤلمة، فقد تركت عائلتي وأموالي تنفيذا للمبدأ السائد آنذاك، وكنت أيام الثورة التحريرية أنشط على مستوى الولاية الثالثة (منطقة القبائل)، حيث كانت تصلني أخبار الظلم الكبير الذي مارسته السلطات الدخيلة''... ويستطرد وعيناه مغرورقتان بالدموع ''لقد ذبحوا ابن عمي المجاهد ''حسين'' سنة 1955 كالكبش، ومات شقيقاي المجاهدين أحدهما في سنة 1959 والآخر سنة ,1961 وهدم المستدمرون منزلنا، فبقيت أمي وحيدة تعاني الأمرين وهي في سن ال,,.78 لقد كانت قوات الاحتلال تجرد المجاهدين المقبوض عليهم من ثيابهم وتتركهم على هذا الحال لمدة أربعة أوخمسة أيام إضرارا بمشاعر أمهاتهم، لكن زغاريد الوالدات كانت تتعالى ناقلة رسائل الصمود من أجل الوطن. القهر شحن بطارية الاستشهاد وبرأي المجاهد أحمد واندي فإن المجاهدين كافة استقوا قيم الوطنية من الإيمان بالله، حيث شحنت أشكال الظلم الفرنسي بطارية الإيمان للاستشهاد في سبيل الله، وهذا الإيمان هو منبع الجرأة والشجاعة التي جعلته وإخوانه في الكفاح المسلح يكافحون عدوا مجهزا بالعتاد الحربي ببنادق الصيد، ويصعدون إلى الكهوف لتنفيذ العمليات بمعدل مرتين في الأسبوع في ظروف جد صعبة تجعلهم لا يفارقون جواربهم وأحذيتهم لمدة طويلة تحسبا للطوارئ، ولا يأكلون أحيانا لعدة أيام قد تصل 14 يوما. ويتابع ''ورغم كل شيء لم نتراجع عن قرار تحرير الجزائر، ووصلنا تنفيذ العمليات ليلا بعد قطع الطرق على قوات الاحتلال من جانبين، مما كان يثير ذهول السلطات الفرنسية التي كان يسقط جنودها المسلحين على يد مجاهدين لا يملكون سوى بنادق... وفي 19 جوان 1957 وقعت في قبضة الاحتلال، وبعد عدة محاولات لدفعي على الاعتراف من خلال اقتلاع بعض أسناني بآلة نزع المسامير (الكلاّب) يئسوا من الحصول على المعلومات بعد تسعة أيام فألقوا بي في سركاجي لمدة 8 أشهر ثم نقلوني إلى سجن الحراش،حيث مكثت مقيد اليدين إلى غاية 4 ماي .''1962 ثم يختم كلامه بالحديث عن مفهوم روح الوطنية في حقبة الاحتلال: ''إنها رغبة جامحة في استرجاع الحرية تسكن أرواحا لا يأسرها حب الدنيا وحب شهواتها من السلطة والمال.. بل كفاح في سبيل الله فقط-.