يجمع الكثير من المجاهدين وأبناء جيل الثورة أن مرحلة الاستعمار التي عاشوها ولّدت داخلهم إحساساً كبيراً بالروح الوطنية، توارثه أبناء جيل اليوم، ويتجلى في تمسكهم بالتاريخ ودفاعهم عن الانتماء الوطني، ولا ننكر أننا صرنا نلمس بين الحين والآخر اختلافاً في تفسير هذه الأحاسيس، فبعض أبناء الثورة ينتقد تصرفات جيل اليوم، ويصفه بغير المهتم بما قدمه الأبطال من أجل هذا الوطن الغالي، وبالمقابل نلاحظ أن جيل الاستقلال يعترف أنه ضحية عدم فهم، وأن روح الوطنية تظهر في المواقف الحرجة، وفي هذا الاستطلاع المقتضب التقينا عينة من الجيلين ورصدنا انطباعات تؤكد أن أبناء الجزائر أكثر تعلقاً بالتاريخ والرموز والألوان الوطنية. ''إذا تحدثتَ إلى أيِّ من مجاهدي الأمس، فلن تفلت من انتقاده، واعلمْ أنّ ذلك نابع من الإحساس الفياض بالوطنية وتاريخ البلاد والاستقلال الذي لم يأت من فراغ''، هكذا تحدث إلينا أحد العارفين بذهنيات الجيلين، ونصحني أن أتحمل تلك النصائح التي تخرج من قلوب المجاهدين قبل أفواههم، ولا يهم في ذلك القالب أو الشكل الذي جاءت فيه، لأن الجوهر يحمل ''جواهر'' حقيقية تتصل بشموخ التاريخ وقداسة المبادئ وروح الوطنية الفياضة. ولم يخفِ المجاهد (عمر.ب) الذي وجدناه بالجمعية الوطنية للمحكوم عليهم بالإعدام أن الظروف القاهرة التي عاشها جيل الأمس هي التي تركته يحس بقيمة الاستقلال والحرية، قائلاً: ''نحن عشنا في عهد الاستعمار لم نتمكن من التعلم، تعبنا كثيراً، الاستعمار كان يعاملنا كالعبيد، ولذلك فنحن نعرف معنى الاحتلال، والفرق بيننا وبين جيل اليوم أن عدونا بالأمس كان ظاهرا، لذلك كانت وطنيتنا قوية'' مشيراً إلى أن جيل اليوم الذي ترعرع في كنف الاستقلال والحرية قد لا يحس بذلك أو لا يهتم، لكن محدثنا لم ينفِ أن عدوّ الأمس ما يزال يناور ولن يتركنا ولذلك وجب التحلي باليقظة. ويضيف المجاهد أنه على شباب اليوم أخذ المشعل والاستعداد للمستقبل واستلهام العبر والعظات من جيل المجاهدين الذين ضربوا أروع الأمثلة في التضحيات والدفاع عن الوطن، وبرأيه فإن أحسن طريق للحفاظ على مكاسب الثورة هو الإخلاص في العمل والافتخار بكل ما يتصل بتاريخنا وحسن تمثيل الجزائر في كل مكان من العالم. ومن جهة أخرى، لا يعني أن جيل اليوم الذي لا يتحدث عن التاريخ وأمجاد الأبطال، لا يهتم بذلك أو هو رافض له، لأن غبار الأوضاع الاجتماعية قد يغشى جانباً مهماً من اهتمامات الأفراد والجماعات، ولا يزال اللب والجوهر الحقيقي للفرد الجزائري، الذي أصبحت بعض الظروف العابرة محكاً له لاكتشاف ما يحس به حقيقة تجاه وطنه وشعبه وحكومته. ولعل ما حدث لعناصر الفريق الوطني بالقاهرة وما صاحبه من زوابع إعلامية كشف جانباً مهماً من تعلق شبابنا بهويته الوطنية ودفاعه المستميت عن رموزه ومقومات بلده، واكتشف السياسيون أن ''الوطنية بخير'' وأن طينة هذا الشعب لم ولن تمحوها ظروف ووضعيات عابرة. ويرى (فاتح .م) شاب في الثلاثينيات أنه من الطبيعي جداً أن نجد جيل الأمس يتحلى بروح وطنية عالية، لأنه بكل بساطة عاش أوضاعاً صعبة تميزت بالقهر والإهانة والتشريد والتمييز العنصري، وهي الأوضاع التي لا يحس بها جيل اليوم الذي ترعرع في ظل الحرية والانعتاق، أما (نور.ع) الفتاة الجامعية فلا تعتقد أن جيل اليوم أقل وطنية من جيل الأمس، فوطنيته كامنة ولا تظهر إلا في بعض المواقف، لكن ترى بأنه يجب الاهتمام أكثر بالتنشئة الاجتماعية وربطها بغرس بذور الوطنية، وترفض أن نتحدث عن الوطنية والمواطنة في المناسبات فقط، وحسبها فإنه يستوجب عدم اختصار وطنيتنا في ذكر الاستعمار، بل يتعين الحديث عن حضارتنا وتاريخنا الحافل بالعلم وفكر الحضارات المتعاقبة، قائلة: ''الوطنية تبدأ من أبسط سلوك يسلكه الفرد، وهي تعني الإخلاص في العمل واحترام القوانين والتحلي بروح التحضر''. وذكر لنا (عبد الواحد.ت-ابن مجاهد) قائلاً: ''يجب ألا نلوم مجاهدي الأمس على عدم تبليغ الرسالة كاملة لأنهم معذورون من عدة جوانب، أهمها أن المستوى العلمي لمعظم الأبطال لا يؤهلهم لترويج الثقافة الوطنية بالطريقة المدروسة، ويرجع أحد الشباب الذي وجدناه بالقرب من مقر جمعية المجاهدين المحكوم عليهم بالاعدام إلى سياسة التجهيل التي مارستها فرنسا ضد الجزائريين والتضييق عليهم حتى ينشأ جلهم أمياً لا يستطيع مقارعة المتمكنين من ناصية العلم والتكنولوجيا والسياسة''...فأنا أشعر اليوم بوضعية والدي الذي لا أستطيع أحياناً التحدث إليه كونه تعرض إلى التعذيب والقهر، ولا يمتلك طريقة جيدة لغرس تلك الروح النضالية، فهو دائما ينتقد بعض تصرفات جيل الاستقلال''. ومهما يكن من أمر فإن الثابت في ظل الجدل القائم بين الجيلين في استشعار أن ''وطنيتنا '' بخير ولا غبار عليها.