رجل استطاع حلحلة الركود، شمس مغربية بددت ظلمات الجمود، أطاح بكتل من جليد الزمن المتراكم، أعاد للفكر العربي كفاءته فكان نخلته التي تساقطت عليه علمًا جنيا، عندما يذكر إسم هذا الرجل، ما على المشارقة إلا أن يقفوا وقفة إحترام وتبجيل، فمن هو هذا الرجل الذي تشبه سيرته أبطال الأساطير ولماذا لم يقتحم بسيرته أهل وطنه أعمالا فنية »درامية« تطول من خلال قامته قامتها؟ إنه الشيخ العلامة والمرشد الفضيل الورثلاني إن عمالقة العربية ليس من المفروض أن يكونوا عربا، وإن أنصار الضاد هم من حملوا راية الجهاد الفكري كما الشمس ليعيدوا ترميم شبكة الإنارة التي تعطلت في الشرق أو تلك تم تدميرها بواسطة جامدين متقوقعين ليس هم في مستوى التشبع بالإسلام وأفكاره والإرتقاء الى تعاليمه ولاهم في مستوى مسايرة العصر والأخذ بأسباب تقدمه وتمدنه فلا هم من هؤلاء ولا هؤلاء، ولا هم أيضا ممن تفجر عزائمهم الظروف الصعبة وتكالب الأكلة على قصعتهم، في هذا الجو المتنوع بالشحناء المهدد بكل الأزمات، المحاصر بكل أنواع الظلم والاستبداد ولد هذا المصلح العبقري وكانت ولادته تشبه في مرحلتها ولادة العظماء لأنهم أهل لتحمل الرسالات الصعبة لأمم منهارة ضعيفة ليخرجوها من الظلمات إلى النور. كان مولد إبراهيم بن مصطفى المشهور باسم الفضيل الورثلاني نسبة إلى بلدة بني ورثلان بمنطقة الهضاب العليا بولاية سطيف في (02 جوان 1900). ولد إبراهيم في كنف أسرة علمية جزائرية، وحتى المنطقة اشتهرت بالعلم وانجاب العلماء الذين يشهد لهم، وكيف لا وجدّ ابراهيم الشيخ حسين الورثلاني. اشتهرت المنطقة »بني ورثلان« بمنابع العلم والزوايا التي تخرج الآلاف من حفظة القرآن الكريم وحراس العقيدة الإسلامية المتشبعين بالفكر الإسلامي الرافعين لكتاب الله وتعاليمه وعلومه. التحق إبراهيم كبني بلدته بالمدارس القرآنية وأخذ عن مشايخ بني ورثلان مبادئ القراءة والكتابة ودرس عنهم علوم العربية، ولما اشتد عوده وأخذ القسط الذي يؤهله الى المزيد توجه إلى مدينة العلم قسنطينة حيث واصل تعليمه على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس وأخذ عنه التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي والأدب العربي، وقد كان شيخه بن باديس قدوته حيث حفر في نفسه أثرا كبيرا خصوصا في مناهجه وطرقه في الإصلاح مما أنضجه كامل النضج وانس فيه شيخه هذا النضج فجعل منه سنة 1932 مساعدا له في التدريس، بالإضافة الى نشاطاته عبر الوطن في جولاته لصالح مجلة الشهاب أو مرافقا للإمام إبن باديس في بعض تنقلاته بالوطن. كما كان قلمه دفّاقا في كل من جريدتي "البصائر" و"الشهاب" فكانت مقالاته مجبولة بالروح الوطنية والعمق الديني المتأجج. الورثلاني بفرنسا ربما الحرب العالمية الأولى (1914-1918) هي التي شجعت الجزائزيين خصوصا والمغاربة عموما من اكتشاف العالم الغربي بعدما جندوا في هذه الحرب واحتكوا بباقي الشعوب الأخرى سواء الإسلامية الرازحة تحت نير الإستعمار أو غيرها، والبعض منهم فضل المقام هناك للعمل في معامل فرنسا ومزارعها والبعض التحق بفرنسا من الجزائر من أجل إعالة الكثير من أفراد عائلته لأن العائلة الجزائرية كانت تشكل أسرة كبيرة من الأب والأم والأبناء والأحفاد ولم يكن لها من مدخول إلا ما تنتجه الأرض التي تعتمد على غيث السماء أو ما يأخذه بعض أفرادها مقابل عملهم المضني في مزارع المعمّرين وحقولهم، وهذا ما أدى بهجرة الكثير الى فرنسا من أجل توفير لقمة العيش مما كون جالية جزائرية تعد في ذلك الزمن كبيرة. هذه الجالية لم تغب عن ذهن الشيخ الإمام ابن باديس خصوصا انها في بلد يخشى عليها فيه عن معتقدها وأخلاقها وقيمها الدينية والإستلاب من مقوماتها وهذا ما كانت تعمل له السلطات الإستعمارية في الجزائر من أجل تجريد الشعب الجزائري من كل مقوماته الثقافية والحضارية وجعله شعبا مجردا من كل القيم الا اتباع ما تريده له فرنسا الإستعمارية، الرسالة الإصلاحية لم تبق مرهونة في الأرض الجزائرية لأن هؤلاء العائدين من فرنسا قد يأتون بأفكار تساعد على هدم المجتمع وضرب أخلاقه من الداخل فأوعز الإمام هذه المهمة الصعبة والخطيرة الى تلميذه الفضيل الورثلاني، ففي سنة 1936 نزل الفضيل الورثلاني بفرنسا مبعوثا من جمعية العلماء مكلفا بمهمة الإصلاح والإرشاد والتوعية، فكانت إقامته في العاصمة الفرنسية وبها بدأ نشاطه تحدوه روح الإيمان ونبل وعظمة المهمة التي جاء من أجلها. كانت بداية اتصالاته بالعمال والطلبة الجزائريينبفرنسا، ولم يقتصر عمله في التوعية والإصلاح، بل عمل على انشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي ومحاربة الرذيلة والإنحلال واستطاع الفضيل الورثلاني في مدة عامين فتح الكثير من النوادي الثقافية في مدينة باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية الأخرى. إن تواجد الشيخ الفضيل الورثلاني في باريس مكنه من الإتصال بالطلبة العرب في الجامعات الفرنسية مما أنشأ بينه وبينهم علاقات وطيدة وقوية أمثال العلامة محمد عبد الله دراز، عبد الرحمن تاج الذي ترأس فيما بعد مشيخة الأزهر، والشاعر عمر بهاء الدين الأميري، والعلامة السوري محمد عبد القادر المبارك. إن النشاط المتوقّد الذي كان يقوم به الشيخ الفضيل الورثلاني كانت تراقبه العيون الفرنسية وتقرأ له قراءتها الإستعمارية مما جعلها تضايقه وتهدده بالتصفية الجسدية وهذا ما اضطره الى الخروج من فرنسا الى إيطاليا ومنها سافر الى القاهرة. دخل القاهرة والحرب العالمية مندلعة في عامها الأول وكان دخوله مصر سنة 1940 حيث انتسب الى جامعة الأزهر الشريف فتحصل على شهادته العالمية في كلية أصول الدين والشريعة الإسلامية وفي ذات الوقت حاملا رسالته الجهادية الإصلاحية فاضحا الإستعمار الفرنسي ومنتقدا له في الجزائر وذلك من أجل التعريف بالقضية الجزائرية وقضايا المسلمين عموما، فأسس سنة 1942 اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، كما أسس سنة 1944 جبهة الدفاع عن شمال افريقيا ثم انشأ مكتب جمعية العلماء المسلمين في القاهرة سنة 1948 وفيه استقبل الشيخ البشير الإبراهيمي سنة 1952، بالإضافة الى انخراطه في منظمة الإخوان المسلمين وصار عضوا من أعضائها حيث كانت تربطه ورئيسها الشيخ حسن البنا علاقة وطيدة وهذا يعود لما لمسه فيه الشيخ البنا من ملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع حتى جعله ينوب عنه حينما يكون غائبا عن القاهرة في إلقاء حديث الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان. نظرا لنضاله الإصلاحي والتوعوي وكسبه لخبرة التواصل بين الجالية الجزائرية في باريس وممارسته مهمة الإصلاح وان صح التعبير الوجه الآخر للإصلاح هو التعبئة السياسية والتنشيط الفكري والتحسيس بما يحدث هنا وهناك من جهاد ومقاومة، وكانت بلاد اليمن في حال حراك قوي للحرية وهذا ما توافق وتطلعه للإصلاح والتغيير ومحاربة الجهل والعزلة والفقر فأوفده زعيم الإخوان إلى اليمن. من القاهرة إلى اليمن في سنة 1947 دخل الفضيل الورثلاني أرض اليمن وعمل على توحيد صفوف المعارضة وإزالة الخلاف بينها ونجح في ذلك ومن ثم بدأ في إعداد الناس للتغيير بخطبه النارية التي تلهب المشاعر وتوقد الحماسة في صدور الناس. نجحت المعارضة اليمنية في فبراير 1948 في الوصول الى سدة الحكم بعد إزاحة الإمام يحيى، لكن الشيخ الورثلاني زج به في السجن بتهمة المشاركة في محاولة انقلابية ثم شمله العفو مع مجموعة ممن اتهموا بهذه التهمة، فبعد مغادرته السجن شدّ الرحال تاركا اليمن ومشاكله وجال في عدة دول أوربية بعدما رفضت الدول العربية استقباله فأصبح فيها كالمطارد الذي لا ذنب له ولم توافق أي دولة عربية على استقباله إلا لبنان والتي أشترطت عليه أن يكون الأمر سرا. عندما أطاح الضباط الأحرار بالنظام الملكي القائم في مصر بانقلاب على الملك فاروق عاد الورثلاني الى البلاد المصرية بعد ان غاب عنها عدة سنوات واستقبل فيها من قبل العلماء والسياسيين اعترافا بتاريخه النضالي والجهادي، ولم يجنح الشيخ الفضيل الورثلاني الى الراحة، بل باشر أعماله الجهادية في مؤازرة الثورة الجزائرية التي اندلعت سنة 1954 وأصدر مع الشيخ البشير الإبراهيمي البيان الشهير باسم جمعية العلماء المسلمين. لم يتوقف الورثلاني عن اعماله الجهادية ولم يقعده مرضه بل واصل مشواره النضالي الى أن توقف به السير في إحدى مستشفيات مدينة أنقرة التركية فالتحق بجوار ربه في رمضان 1387ه الموافق ل 12 مارس 1959م ودفن هناك بتركيا وبعد سنوات من الصمت والتنكر لأعماله يعود الشيخ الفضيل الورثلاني الى وطنه وتدفن رفاته في مسقط رأسه ببني ورثلان البلدة التي تقع في الهضاب العليا بسطيف وذلك سنة 1987. إن حياة الفضيل الورثلاني حياة أبطال الأساطير إلا أنها تختلف عنهم كونها واقعا وليس نسجا من خيالات شعبية لأن الأبطال في الجزائر هم حقيقة بعيدة عن نسج الخيال والسيناريوهات البوليسية التي تحفل بكثير من التأثيرات إلا أنها بعيدة عن الواقع، أما الشيخ الورثلاني فهو حياة بطل جزائري أصلح الشرق وأضاءه. : للموضوع مراجع