''الدّين المعاملة''... عبارة يعرفها الجميع، لكن القليلين يدركون أهمية تطبيقها في حياتنا اليومية، ومدى تأثيرها القوي على كل مناحي العيش، وعلى العلاقات بين الناس خصوصا. ويعزو البعض ذلك إلى ''الضغوط الحياتية''، لكن آخرين يرفضون هذا التبرير باعتبار أن حسن المعاملة من حسن التربية، وأن الضغوط يعيشها الجميع. عندما أردنا ان نستطلع آراء الناس حول أهمية المعاملة في مختلف الإدارات والهيئات الخدماتية، اعتقدنا أن هذه الأخيرة هي محل الشكوى فقط من المواطنين، لكن نزولنا إلى الميدان أكد لنا ان الشكوى تمتد إلى العديد من الأطراف، لاسيما التجار وأصحاب النقل بأنواعه، وأصحاب المطاعم، وعموما كل القطاعات الخدماتية، دون ان ينكر البعض ان المعاملة أصبحت تحدد نوعية العلاقات حتى داخل الأسرة الجزائرية. مكاتب بلا روح يشتكي الكثير من المواطنين من طريقة التعامل معهم في مختلف الإدارات وبعض الهيئات كالبنوك والبريد، ومؤسسات الماء والكهرباء وهيئات التشغيل...الخ، ولم يكن غريبا ان يفصح لنا ''مراد'' وهو شاب في العشرين من عمره، انه أصبح لايرى في الإدارات إلا مجرد ''مكاتب''، في إشارة قوية منه إلى غياب أي تكفل بالمواطنين في هذه الفضاءات، منها البلديات والدوائر، إضافة إلى مؤسسات تشغيل الشباب. هي إذاً مكاتب بدون روح، لأنها لاترى في قاصديها إلا مجرد أرقام في أحسن الأحوال، وأحيانا هم ''لاشيء''، وبالتالي لاتهم معاناتهم أحدا. ولايطلب محدثونا ان يتعاطف معهم عون الإدارة ليحل لهم مشاكلهم، بقدر ما يطالبون بكل بساطة أن يتم استقبالهم وإعطاؤهم الوقت اللازم للنظر في مقصدهم، وتقديم الخدمات العادية التي أنشئت الإدارة من أجلها. يقول عبد القادر ''في أحيان كثيرة لانجد حتى من نسأل عن محتوى ملف ما، وعندما نجد الشخص المعني أخيرا، يتعامل معنا بجفاء غريب... لاتحية صباحية أو مسائية... لا تفضل بالجلوس... وبتكشيرة غريبة يرمي لنا ورقة فيها المطلوب، وكأننا أشياء ولسنا أناسا''. من جانبها تتذكر ربيعة حصولها على رخصة السياقة بكل مرارة، لأنها جعلتها تعيش تجربة مريرة مع الدائرة الإدارية التي تقيم بها، تروي قائلة ''فرحت كثيرا بحصولي أخيرا على رخص السياقة، وتقدمت بملف لاستخراجها من الدائرة الإدارية لمقاطعتنا، منحت وثيقة مؤقتة وقيل لي عودي بعد شهر للحصول على الرخصة، وعدت ولم أجد شيئا، ثم عدت بعدها وكان الجواب نفسه من طرف عون الدائرة ''مازال''... كان يردد هذه الكلمة بكل برودة وكأن الأمر عادي جدا، وبعد سبعة أشهر من ذهاب وإياب انفجرت غاضبة، وطلبت مقابلة رئيس القسم بعد ان صرخت في وجه عون الإدارة الذي قال لي ''إذا أردت الشكوى فافعلي''... لاأخفي عليك لم أتردد في وصف ما يحدث بالإرهاب الإداري، وقد تفاجأ رئيس القسم برد فعلي، وقال لي إن الأمر عاد وإن العمل كثير في الإدارة... وأتذكر أنني عندما تسلمت الرخصة أخيرا قال لي العون ''احمدي الله أن المدة لم تتجاوز سبعة أشهر، هناك أناس ينتظرون الرخصة منذ أكثر من عام!'' . استخفاف بالمواطن هي عينة توحي ب''استخفاف، وامتهان'' للمواطن من طرف بعض الاعوان الإداريين كما يوضح الحاج بدوي الذي يعيش في كل مرة الأمرين في مكانين، الأول مركز الضمان الاجتماعي والثاني مركز البريد، حيث يتوجه كل شهر لاستلام راتب تقاعده. التقيناه بإحدى مراكز البريد شرق العاصمة، ولم تكن هناك حاجة لسؤاله لأنه بادرنا بالقول وهو مستاء ''مركز البريد هذا لن يعرف أبدا النظام... كل مرة نفس الوضع''، حاولنا معرفة المزيد، فاكتشفنا أن مايعاني منه محدثنا في حقيقة الأمر هو ذلك التعامل الفظ من طرف بعض العاملين والعاملات في المركز، ولم يكن غريبا ان نستمع إلى مثل هذه الشكوى، لأن الكثيرين الذين سألناهم عن الموضوع اشتكوا من المعاملة في مراكز البريد بالذات، ويجدر القول هنا إن نقص السيولة الذي عرفته هذه المراكز في الأشهر الأخيرة زاد الطين بلة، اذ توترت العلاقات كثيرا بين الزبائن والعاملين في المراكز البريدية بسبب الضغط الكبير الذي نجم عن هذه الوضعية. وآثرنا سؤال السيدة ''نبيلة. ش'' الموظفة بإحدى مراكز البريد منذ حوالي عشر سنوات عن سبب كثرة الشكوى من طريقة تعامل موظفي البريد مع الزبائن، فوجدناها كخزان مملوء لم تتردد في إفراغ محتوياته، التي يمكن اختصارها في كون الزبائن الذين يشتكون - كما قالت - ''أغلبهم لايحترمون أعوان البريد، لا في تصرفاتهم ولا في كلامهم، وأمام ذلك لايمكن أن نطلب من الاعوان ان يكونوا مبتسمين، منشرحين''. لكن أغلب من تحدثنا معهم، فضلا عن تجاربنا الشخصية يؤكدون أن طريقة الاستقبال من طرف بعض الاعوان تدعو فعلا للغضب، فالمتعارف عليه ان ابسط شيء يقوم به أي عون اداري هو ان يرحب بالزبون ويبتسم في وجهه، وهو أكيد ما سيخفف من الضغط، فحتى لو جاء الزبون شاكيا، يحس بالراحة وقد يتنازل عن شكواه مقابل ''ابتسامة وكلمة طيبة''. يقول كريم وهو طالب جامعي في معهد علم النفس ببوزريعة معلقا على الموضوع ''أعتقد أن الجزائري عاطفي جدا، ويكفي ان يتحدث اليه الاخر بلطف وتقدير ليغير كل مواقفه ولينسى مشاكله وهمومه، وقد يتنازل حتى عن حقه... أما في حال العكس، فإنه يتحول إلى كائن عنيد يصر على الشيء حتى إن كان مخطئا، لانه يرفض الاحساس بالإهانة''. صراع الصفوف بين الرجال والنساء يجدر القول إن توتر العلاقات داخل الادارات والهيئات لايتم بين الاعوان والزبائن فقط، بل قد ينتقل إلى الزبائن فيما بينهم، وهو ما تحكي عنه ليندا الموظفة في إحدى الوكالات البنكية بالعاصمة، حيث تعرضت محدثتنا لمواقف سلبية كثيرة، وصلت إلى حد الشجار مع الزبائن لا لسبب إلا لانها تفصل بين الرجال والنساء لدى استقبال الزبائن القادمين لتسلم رواتبهم الشهرية. تقول ''في احيان كثيرة تعرضت للشتم من طرف بعض الزبائن لالشيء إلا لأني أطبق قانون البنك الذي يشير إلى الفصل بين صف الرجال وصف النساء.. والسبب هو أن النساء اقل عددا من الرجال، وعندما يكتظ البنك بالزبائن اتهم بانني افضل النساء على الرجال، رغم انني احيانا استقبل رجلين مقابل امراة واحدة. لكن الاحتجاج لابد ان يكون لا سيما عندما يرى الرجال المصطفون أن امرأة وفدت منذ قليل واخذت راتبها قبلهم''. وتتساءل ليندا ''لاأفهم لماذا يحتج هؤلاء؟ وماذنبي انا اذا كان عدد النساء اقل؟ الرجال كثيرا ما لايعترفون بهذا القانون ويقولون اننا لم نر مايدل على وجوده، بل وينظرون بطريقة غير لائقة للزبونات وكانهن اخذن حقهم...او راتبهم!'' وعن تفسيرها لهذه الظاهرة تقول ''أعتقد ان الامور تغيرت، وان الرجال حاليا ينظرون للمرأة على أنها ند لهم، وبالتالي لايعترفون بأي فرق بين الاثنين، لاسيما في الصف - تضحك - وهو ما يعبر عنه الزبائن في كل مرة عند استيائهم من تصرفي''. وبعيدا عن أجواء الإدارة وهمومها، يشتكي الكثير من المواطنين من سوء المعاملة في قطاعات خدماتية كثيرة كوسائل النقل بكل أنواعها والمطاعم ومحلات الأكل والفنادق والفضاءات السياحية... الخ، والغريب هنا أن المواطن يدفع مقابلا لهذه الخدمات، لكنه يجد نفسه في أحيان كثيرة يترجى صاحب الخدمة من أجل أن يحصل على هذه الأخيرة وبمقابل أكبر! ''ربما لايحدث هذا إلا في الجزائر'' كما تقول السيدة ''دليلة'' التي التقيناها بإحدى محلات الأكل بشارع بن مهيدي وهي تحتج لدى النادل بسبب عدم تنظيفه للطاولة، وبدل أن يعتذر ويسرع في أداء مهمته، عبر النادل عن انزعاجه وكأن المرأة أهانته بطلبها! قطاع الخدمات... تجسيد لسوء المعاملة فتحنا معها الموضوع فلم تتردد في البوح لنا عن سخطها الكبير من الخدمات المقدمة في الجزائر بدءا بالاستقبال وانتهاء بنوعية الوجبات وطريقة تقديمها، تقول ''ما يحدث ببلادنا غريب جدا، فعند الدخول إلى مطعم أو بيتزيريا قليلا جدا ما نجد من يستقبلنا ويحيينا بابتسامة ويدعونا إلى الجلوس في طاولة ما، أشعر انني مضطرة لخدمة نفسي دائما، أبحث عن طاولة فارغة، ثم أمسح بقايا الاكل بمنديل ورقي اخرجه من حقيبتي، ثم اطلب قائمة الاكل التي قد لا تكون موجودة اصلا، ثم افاجأ بغياب الكثير من الاكلات المدونة في القائمة دون ان يتم الاعتذار عن ذلك، النادل أو النادلة لا تهتم بك كما يجب: بل حدث وأن تشاجرت نادلتان أمامي لأن كل واحدة تريد ان تتكفل الأخرى بي.. تصوري موقفي وانا أرى ذلك المنظر''. مثل هذه الشكاوى كثيرة جدا لايمكن ان نوردها كلها، مثلها مثل الشكاوى التي تتحدث عن علاقة المواطن بسائقي سيارات الاجرة، الذين يعرف الجميع انهم اكثر مقدمي الخدمات الذين لايؤمنون بتاتا بالمثل القائل ''الزبون هو الملك'' لان هذا الاخير عندهم مجرد ''عبد'' لاتجاهاتهم، والا عليه أن يدفع عشرة اضعاف الثمن، فضلا عن طريقة الحديث والتعامل الفظة، وفرض الاغاني أو الاستماع للاذاعة على الزبون دون أخذ إذنه، وكذا الجمع بين الزبائن دون أدنى اعتبار لراحتهم. قد يقول قائل أين الرقابة في كل هذا؟ لكننا نحن نود طرح سؤال آخر، ''لماذا يسود هذا النوع من التعامل بيننا؟''، ''لماذا لانحترم أدنى طرق التعامل الصحيح؟'' ''لماذا تغيب الابتسامة والتحية؟''، هل الضغوط المعيشية مبرر كاف؟ أسئلة كثيرة لايجد لها المعنيون ولا المختصون إجابات وافية، لكنها تبقى نقطة سوداء في يوميات الجزائريي