في سبعينيات القرن الماضي، بل قبله كانت السينما سيدة الشارع الجزائري وكانت طوابير الوافدين عليها هي أكثر من طوابير أسواق الفلاح والأروقة، وكان منتصف الليل يعج بالحركة لأن رواد السينما يحدثون ضجيجا يشق سكون الليل، فكانت السينما دليلا آخر على إبقاء مدننا الكبرى حية في ليالي الصيف والشتاء ولا تنام كما هي الآن بٌعَيْد غروب الشمس فلماذا السينما تموت في الجزائر؟ الجزائر كانت تنتج السينما، وكانت تستورد الأفلام، وكانت تشارك في المسابقات الكبرى، والجزائريون كانوا يعشقون السينما إلى النخاع، القاعات الكثيرة والكبيرة في المدن الجزائرية الكبرى والصغرى، كانت السينما ترفيها وثقافة، والأفلام التي يتم عرضها تعرض على الجزائري المجتمعات العالمية بأنواعها، بتقاليدها وأذواقها ومميزاتها، فمن أفلام رعاة البقر الأمريكية إلى أفلام الحرب الكونية الأولى والثانية، إلى أفلام المافيا الإيطالية والأفلام الهزلية الكوميدية والأفلام العربية المتمثلة في الأفلام المصرية الغنائية والعاطفية إلى الأفلام الهندية برقصاتها وأغانيها، إضافة إلى ذلك الأفلام التاريخية القديمة من قراصنة وملحمات أسطورية إغريقية مع »إليس« و»هرقل« و»شمشون الجبار« والأفلام البوليسية وغيرها من المواضيع التي كانت تعالجها الثقافة السينمائية بأنواعها المختلفة. السينما الجزائرية من ناحية الإنتاج كانت رائدة وكان لها جمهورها الذي كان راضيا عنها منذ فيلم »رياح الأوراس« للخضر حمينا و»الفحام«، و»وقائع سنين الجمر« و»معركة الجزائر« و»الأفيون والعصا« وغيرها من الأفلام التي أعطت للمنتوج الجزائري السينمائي خصوصية وتميزا، خصوصا الموضوعات التاريخية المتعلقة بالثورة التحريرية، كان الإقبال على هذه الأفلام الجادة كبيرا من قبل الجمهور الجزائري حتى الأفلام الترفيهية الفكاهية كفيلم »عطلة المفتش الطاهر«، أضف إلى ذلك الأفلام والسكاتشات التلفزيونية التي هي الأخرى كان لها حضور في التلفزيون الجزائري بالأبيض والأسود مثل فيلم »الفحام«، »نوة« »الشبكة« والمسلسلات كمسلسل »الحريق«، »دار السبيطار« وكانت هناك أفلام جزائرية عربية مشتركة كفيلم »زاد« و»الطاحونة«. السينما الجزائرية فقدت المكانة التي كانت تحتلها في سبعينيات القرن الماضي ولم تعد تلك السينما التي تحصد السعفة الذهبية مثلما فعله فيلم »وقائع سنوات الجمر« للخضر حمينا. الكثير ممن يتتبعون السينما يرجعون سبب هذا التدهور إلى دخول أفلام »الفيديو« وكثرة القنوات الفضائية، حيث أصبح المشاهد يتابع أي فيلم يريده بمجرد التنقل بزر من قناة إلى أخرى، وهذا الرأي لا يمكن الأخذ به لأن السينما في البلدان المتطورة ما زالت صناعتها من أكبر الصناعات الرائدة، وفي بلدان نامية أصبحت تنشأ لها المدن السينمائية على شاكلة مدينة هوليوود، كما أن المنافسات الكبرى في المهرجانات العالمية ما زالت تخطف الأضواء وتتصدر الأخبار العالمية والمهرجانات بتزايد عددها في العالم وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن السينما كصناعة مازالت سيدة عالمية تصنع المجد والشهرة. عندما نعود إلى السينما في الجزائر وإلى التدهور والتقهقر الذي أصابها رغم المحاولات لإنقاذ السينما الجزائرية من الموت ومحاولة بعثها من جديد وذلك من خلال العودة إلى موضوعها البارز والخاص الذي أعطاها ميزتها وهو تاريخ الثورة والمقاومة مع كل من فيلم »بوعمامة« وإن تم إنتاجه في القرن الماضي ونال نجاحا كبيرا، وكذا فيلم »مصطفى بن بولعيد« وأفلام تاريخية أخرى ما زالت لم تبعث بعد وإن تم تصوير البعض منها كفيلم »أحمد زهانا« والفيلم الذي هو في انتظار تصويره »كريم بلقاسم« وبعض الأفلام الأخرى، إضافة إلى المسلسلات كمسلسل »عذراء الجبل« لالة فاطمة نسومر، إلا أن هذه المحاولات لم تستطع أن تكوّن جمهورا كتلك الأفلام التي كوّنته في الماضي وقد يعود السبب في ذلك إلى غياب دراسة الجمهور الجزائري وماذا يريده من السينما، وليس الحكم عليه أنه تحوّل إلى جمهور تلفزيون وفيديوهات لأن السينما ما زالت تستقطب الجمهور لكن المشكل الحاصل ليس في الأفلام المنتجة أو الأفلام التي تعرض وإنما هناك مشاكل أخرى ما زالت مطروحة وبقوة على الساحة الثقافية الجزائرية ومنها قاعات السينما. إذاعدنا للماضي فإن قاعات السينما كانت كثيرة وممتازة، وكانت أحياء المدن الكبرى تتوفر على أكثر من قاعة لعرض الأفلام، ففي الجزائر العاصمة لا يوجد حي من أحيائها إلاّ وله أكثر من قاعة باب الواد، الجزائر الوسطى، الأبيار، سيدي محمد، الينابيع، حسين داي، الحراش وغيرها من الأحياء الشعبية، وكان لكل قاعة اختصاص في الأفلام التي تعرضها مثلا في الجزائر »دنيا زاد« مختصة في الأفلام العربية والهندية، »المودرن« بحسين داي والتي تحوّلت اليوم بعد هدمها إلى بناية أخرى كانت مختصة أيضا بأفلام عربية وهندية بينما جارتها سينما »النجمة« كانت مختصة بأفلام »المافيا« وسينما »طرابلس« مختصة بأفلام رعاة البقر وغيرها من الأفلام الحربية والتاريخية، لكن هذه القاعات الثلاث لم تبق ولو قاعة صالحة لعرض فيلم، بل تحولت إلى مكان لرمي النفايات وإلى مكان تعيش فيه الجرذان، حيث تغطيها صناديق الخضر والفواكه، والبعض منها نسجت عليها العناكب بيوتها، أين قاعة افريقيا، دنيا زاد، والقاعات الأخرى التي كانت موجودة في الأحياء الشعبية ففي سيدي محمد وحي أول ماي والأبيار والقبة في كل حي أكثر من قاعة. السينما تموت في الجزائر صناعة وجمهورا، لم يعد لها ذلك الجمهور الذي يملأ الأحياء الشعبية في منتصف الليل، لم تعد لها تلك القاعات الجميلة التي كانت موجودة وكان أمامها بدل أسواق الخضر والفواكه التي استحوذت على الأرصفة وأغلقت الشوارع كان هناك جمهور السينما وأسواق الكتب والمجلات بين أطفال المدارس والثانويات. السينما تفقد جمهورها مثلما فقدت قاعتها لأنها لم تعد صناعة بذاتها وبأهدافها وهي الترويج للجزائر والإشهار لها والتعريف بتاريخها، لم تكن الأفلام أفلام توجه معين حتى وإن طغت في وقت ما إيديولوجية خاصة، إلا أن السينما كانت تصنع الأفلام التي يريدها الجمهور، من منا لا يذكر الضجة الكبيرة التي أحدثها فيلم الرسالة حيث كانت الأسر الجزائرية بعجائزها وشيوخها وأطفالها تحجز تذاكر في قاعة إفريقيا، بل تشتريها من السوق الموازية بأسعار باهظة من أجل مشاهدة هذا الفيلم التاريخي الإسلامي. المشكل ليس في أن الجمهور الجزائري لم يعد يتذوق السينما، وليس المشكل أيضا في أفلام الفيديو أو حتى تلك الأفلام التي لا تراعي القيم والأخلاق وإنما السبب في سقوط السينما، لأن هذه الأفلام موجودة هي الأخرى على جميع الجبهات الفضائية التي يتم ضخها من الخارج، وإنما المشكل في موت السينما الجزائرية هي أننا تخلينا عنها فتخلت عنا، وحوّلنا قاعاتها إلى أطلال وربما البعض منها تم الاستحواذ عليه ليتحوّل الى مساكن ومتاجر، بينما السينما في العالم حولنا صناعة وتجارة وإننا كل يوم نقرأ الأرباح التي تجنيها الأفلام كمئات الملايين لأنها قبل كل شيء صناعة لها رجالها الذين يعملون لها ومن أجلها ولهذا لم تمت السينما في العالم من حولنا وتموت في الجزائر.؟!