تجاوز الكاتب التونسي المعروف، عبد الوهاب المدّب، في كتابه ''ربيع تونس.. تحوّل التاريخ'' كلّ زوايا ومقاربات الكتّاب الذين عالجوا الثورات العربية من منطلق سياسي محض، بانتهاجه أسلوب المعرفة الأدبية والفكرية العامة، التي مكّنته من توظيف الفلسفة وعلم الاجتماع والشعر والتاريخ والثقافة والحضارة والتحقيق الشخصي والمعايشة اليومية والتأمّل المنهجي، في قراءته للثورة التونسية. وكرّم المدّب في كتابه الصادر عن دار''ألبا ميشال'' أمَّ الثورات بلغة معبرة، كما مجّد الدرس الثوري الذي جسّدته بطروحات ومفاهيم تثير الخلاف وتعمّق النقاش الواجب تكريسه للإحاطة بكلّ جوانب التاريخ العربي الجديد، وبالرغم من كل ما يمكن أن يلاحظ على خلفية المدّب -صاحب أكثر من 20 كتابا- الفكرية الغارقة في القالب الإيديولوجي الفرنسي، فإنّ لا شيء يبرّر الإنقاص أو التخفيف من أصالة كتابته وتناوله للثورة التونسية. واعترف المدّب -وهو من مواليد العاصمة التونسية- من البداية بالطابع الفجائي للثورة التونسية، مبديا عجزه كمثقف عن شرح ساعة اندلاعها، تأكيدا لصحّة المؤرّخين وعلماء الاجتماع الذين وجدوا أنفسهم فريسة تحوّل تاريخي لا ينضبط بنواميس وفرضيات تحاليلهم التقليدية، كما اعترف بذلك في كتاب ''89 العربي''. ويؤكّد أنّ الشعب التونسي، الذي دشّن عهد الحرية العربية الجديد ومسلسل الكرامة، يدين بالإسلام (المدّب كتب: شعب الإسلام)، واستطاع أن يثبت أنّه قادر على صنع التاريخ والتّوق إلى الحرية، مثل الشعوب المسيحية الأخرى التي مجدها هيغل، وربطها فوكوياما بديمقراطية رأسمالية غربية وضعت حدا للتاريخ. و''شعب الإسلام'' على حدّ تعبير المدّب لم يقم بثورته باسم الإسلام، وثورته تغذّت كذلك من مرجعيات غربية أصبحت مكسبا إنسانيا، وهو ما جعل الكاتب التونسي يسترجع تواريخ الثورة الفرنسية والثورات الأوروبية الحديثة، التي أطاحت بأنظمة شمولية حكم قادتها بالحديد والنار، كما فعل بن علي ومبارك والقذافي. شاعرية المدّب، ولغته غير المحايدة والمدروسة تركته يقول إنّ ''حصول العرب والمسلمين على الحرية ولد مسيرة تحوّل تاريخي جديد لعالمهم وللعالم أجمع''، وهي المسيرة التي ستكون حبلى بكل أنواع الصعود والهبوط والتقدم والتردي والتأخر، لكن لا شيء سيكون كالماضي، حسب قوله. وعاد المدّب إلى موطن انطلاق شرارة ثورة ربيع تونس في سيدي بوزيد، وبعد أن توقّف عند مسؤولية بورقيبة في قهر الحريات و''تفريخه'' بن علي، عرّج الكاتب على أبطال ومناضلي ربيع الثورة التونسية، من أمثال لينا بن مهني، وحمادي كالوتشا -سفيان بلحاج- صاحب مدونة ''حلمت بتونس ديمقراطية''، وسليم عمامو، وعزيز عمامي، وكلّهم شنّوا حرب عصابات إلكترونية ضدّ ''عمار ,''404 إسم شرطة إنترنت بن علي وليلى الطرابلسي. شبان تونس -حسب المدب- نجحوا في تجسيد الحق بالحرية على طريقة الفيلسوف ''سبينوزا''، وأجهضوا مشاريع أمراء الطوائف العرب باعتبارهم صناع الربيع الثوري، وبوعزيزي -الشاب الأوّل الذي دشّن ربيع الثورة- هو الشاب الذي يفرض حسب المدّب تسمية ''ثورة عنقاء المغرب''، التي كتب عنها ابن عربي معتبرا البوعزيزي رمز النار التي أشعلت الثورة وتركت الرماد الذي نحيا به، على حدّ قول الشاعر ابن جلدته. وفي بقية صفحات الكتاب، بقي المدّب وفيا لأسلوبه الفكري والشاعري الملئ بالمرجعيات الفلسفية والأدبية الغربية بوجه عام، ومضى يكرّم الشبّان الذين صنعوا ثورة غير منتظرة وغير مسبوقة، مجسّدين مرجعيات وأفكارا لا شيء يقف أمامها حينما تدقّ ساعتها، على حدّ تعبير فيكتور هيغو، ومن بينها فكرة التحرّر، وأنهى تكريمه لما أسماه ب''الجزء المنفلت من التاريخ'' الذي يمثّل العناية الإلهية عند بوسوييه، والعقل عند هيغل، واللاوعي عند بروديل. إنّ كتاب المدّب يعدّ مرجعا مهما واستثنائيا فكريا وسياسيا وأدبيا، وهو حرّ في استقراء ربيع تونس من منظور غربي يعدّ الثورات مكسبا إنسانيا، غير أنّه لم يتوقّف كمفكر وأديب عند تواطؤ الكثير من المثقفين مع سلطة بورقيبة وبن علي، من أمثاله العلمانيين المستنيرين، ويتعلّق الأمر بهؤلاء الذين بقوا في تونس، أو الذين هاجروا وأمنوا لوقت طويل أنّ بورقيبة وبن علي كانا يمثّلان حماية فعلية ضدّ الإسلاميين المتطرّفين، متناسين أنّ قمعهما طال معارضين غير إسلاميين، وهم المعارضون الذين ينعمون بالحرية اليوم في تونس الأم والربيع.