نادراً ما يتسنى لمغن أو مغنية أن يجمع بين الاختصاص الموسيقي الأكاديمي والغناء، بين الخبرة العلمية والموهبة في الصوت والأداء، بين الذاكرة التراثية الأصيلة والإبداع·
غادة شبير المغنّية والملحنة والباحثة الأكاديمية في حقل الموسيقى والغناء جمعت بين هذه المقوّمات ولم تدع ناحية تغلب على ناحية، غناؤها البديع الطالع من عمق الإحساس بالموسيقى والشعر هو في آن واحد شديد الإتقان، مشغول بوعي ومعرفة، صوت بهيّ وساحر، شرقي بامتياز، يحمل في ثناياه أعمق الآهات وأجمل التعرّجات، صوت صاف ونقي قد لا يحتاج في أحيان إلى الموسيقى نظراً إلى قوته ولطافته، وهذا ما قامت به غادة شبير في حفلات كثيرة· أما الأداء، فسليم وجميل، إحساساً وتعبيراً، مخارج الحروف مضبوطة تماماً والنفس يهب من الأعماق وليس فقط من الحنجرة· العام الماضي حازت المغنية اللبنانية الشابة غادة شبير جائزتين عالميتين لأفضل أداء وأفضل عمل من هيئة الإذاعة البريطانية عن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هاتان الجائزتان اللتان منحتاها شهرة عالمية حصرتهما اسطوانتها (سي· دي) التي تحمل عنوان موشحات، والموشحات هي ميدان اختصاصها، تأريخاً وبحثاً وتلحيناً وغناء· وقد أصدرت كتابين هما الموشح بين القديم والمعاصر وموشحات وادوار سيد درويش· وانطلاقاً من هذه الخبرة استطاعت أن تحيي هذا الفن العريق محافظة على أصالته ومطوّرة أو محدثة إياه حتى لبدا معها وكأنه لون معاصر ما برح قادراً على مخاطبة الأذواق الراهنة والعصرية· وكانت في العام 1997 قد فازت بجائزة الأغنية العربية في مصر، في مسابقة أفضل أغنية عربية على رغم قلة انتاجها الذي تشاءه مدروساً وهادئاً، فهي أحيت حفلات كثيرة كانت دوماً تفاجئ الجمهور خلالها في العالم العربي وأوروبا وكندا وأوروبا الشرقية· جديد غادة شبير اسطوانة قوالب (سي· دي) التي شاءتها تحية الى الموسيقار المصري الكبير سيد درويش وهي تعتبره موسيقار القرن العشرين بلا منازع وصلة وصل بين الغناء العربي القديم والمعاصر، كما تقول في الشريط الوثائقي (دي· في· دي) المرفق بالاسطوانة إنها تحية عاطرة جداً الى هذا الموسيقار المصري الرائد الذي رحل على مشارف الثلاثين من عمره في أوج عطائه، تحية تثبت قدرة ألحانه على العيش والاستمرار والتجدّد، وقد اختارت شبير من ريبرتوار سيد درويش قوالب عدّة مثل الموشح "الشكل الشعري الأندلسي العريق" والطقطوقة التي ظهرت في آخر القرن التاسع عشر· وقد أبدع درويش في هذه القوالب إضافة الى الحوار وجدد في بنية الجملة اللحنية من غير أن يمسّ بخصائصها، جامعاً بين المتانة في تركيب النغم وجمال السبك والتنسيق، كما تعبّر غادة في كرّاس الاسطوانة، مضيفة: "فتح سيد درويش الطريق أمام كل من أتوا بعده، فاستفادوا من عبقريته وموهبته"· اذاً لم تلجأ غادة شبير إلى سيد درويش لتغني ألحانه فقط بل أرادت أن تكون الاسطوانة مشروعاً غنائياً وتجربة تهدف الى إحياء تراث هذا الموسيقار الكبير، فهي تعلم جيداً ماذا تريد منه وكيف تغني له وما معنى أن تعيد غناء ألحانه، هكذا راحت تضفي على تلك الألحان لمساتها الخاصة، بالصوت الدافئ والعذب والآهات الشفيفة والتعرجات، بالأداء المشبع بالإتقان والارتجال والانسياب والإحساس المرهف· اختارت غادة ثلاث موشحات هي: طف يا درّي ومنيتي عزّ اصطباري وحير الأفكار، ودورين هما: أنا هويت وأنا عشقت وثلاثة طقاطيق: يا ناس أنا متّ في حبي ويا عشاق النبي وشد الحزام، وارفقت هذه القوالب بموال لحنته هي بنفسها وعنوانه موّال ولاّدة وهو ارتجال من مقام راحة الأرواح -كما تقول- والشعر من ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، ومن يستمع الى الأغاني يشعر بالاختلاف بين القوالب والألحان، وقد نجحت غادة في التنويع والانتقال من جو الى آخر ببراعة وسلاسة، براعة الأداء وسلاسة الصوت· انها أجمل تحية تُرفع الى الموسيقار الكبير سيد درويش، تحية تعيده الى الجمهور عبر صوت بديع بات يحتل مرتبته الخاصة في عالم الغناء، ولعلها مغامرة حقيقية تقوم بها هذه المغنية الآتية من الاختصاص الأكاديمي في مرحلة من الانحطاط الغنائي والفلتان الموسيقي اللذين أساءا كثيراً إلى الأغنية العربية والذاكرة العامة·