تعد الصورة الفوتوغرافية وقفة تاريخية هامة في حياة المجتمعات البشرية، لاسيما عندما يتعلق الأمر بتلك الوقفات البطولية التي تصنعها التضحيات في ساحة الوغى، شهادات حية لا تعتريها اضطرابات الذاكرة مهما طال بها الزمن، لتنقل وقائع لا يشوبها التزييف ولا التمثيل إلى الأجيال.. وفي الجزائر مازال وقع الرصاصات النوفمبرية الأولى يخترق الآذان، ويسرد للأبناء منذ قرابة نصف قرن قصة كفاح شعب وحَده حب الوطن وواجب الدفاع عنه في زمن ما قبل الثورة الإتصالية. ازدادت أهمية الصورة في كافة المجالات لاسيما بعد استفادتها من التقنية الرقمية، ومع ذلك يبقى للصورة التقليدية ذات اللونين الأبيض والأسود وقعها التاريخي على النفوس، وتراها تحاول توقيف عجلة الزمن عند أحداث لا يمكن مشاهدتها على أرض الواقع مجددا. وفي هذا الصدد، ما زالت أحداث الثورة التحريرية الجزائرية تسيّل حبر أقلام المؤرخين المجاهدين والصحفيين، لتظل راسخة في الذاكرة الجماعية للأجيال الصاعدة، ووسط ذلك الزخم من المعلومات التاريخية، كثيرا ما تحضر الصورة الفوتوغرافية لتختصره بكل شفافية، لأنها تلك الملاحظة المباشرة الماضية التي تغني عن الكلام والوصف في إبراز معاناة شعب مع مستدمر أسلوبه ''التجويع''، ''الحرق'' و''الإبادة الجماعية''. وإيمانا بفكرة أن الصورة الفوتوغرافية سجل تاريخي دقيق لنقل قيم البطولة والتضحية وسط النشىء، مازال بعض الهواة ممن يستهويهم جمع كل ما له صلة بالماضي حريصين منذ عدة عقود على جمع الصور التاريخية وعرضها أمام الراغبين في العودة إلى أيام الحقبة الاستعمارية بكل ما تحمله من مشاهد الظلم والقهر، وما يقابلها من نضال سياسي ومقاومة ميدانية لونتها الدماء. وفي شارع العربي بن مهيدي، يسجل هواة الماضي وجزائر الأمس حضورهم على الدوام بعد الحصول على ترخيص من بلدية الجزائر الوسطى سنة,1986 ففي هذا الشارع الذي يحمل إسم أحد أبطال الثورة التحريرية، تروي الصور تلقائيا الوقائع التاريخية للمارة.. صور متنوعة لشخصيات تاريخية بارزة، لأماكن مقدسة، لمواقع أثرية وأحياء سكنية شعبية، على غرار القصبة العيتقة التي ترتسم معالم الحياة التقليدية بأدواتها ولباسها وطرق العيش المنتهجة أنذاك. تلك الصور التي تذكر بالماضي تشكل معرضا تاريخية في الهواء الطلق، الدعوة مفتوحة للجميع وبالمجان لكل من يريد الزيارة، للوقوف على لقطات اِلتقطتها الآلة لتوثق حياة أهل السكان المحتلين قديما في جزائر القرنين التاسع عشر والعشرين، وسبل عيشهم والبيئة البرية والبحرية والنسيج المعماري، وعادات المجتمع.. هي كنز كبير لأبناء الجزائر الحرة، ما يدعو للحفاظ على أرشيف خاص من الصور القديمة المتعلقة سواء بالتراث أو بالجوانب التاريخية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. السيد فاروق عزو، أحد هواة جمع الصور، الطوابع والعملات النقدية القلائل.. منذ ربع قرن ترافقه هواية توارثها أبا عن جد، حيث أصبح جمع الشواهد التاريخية جزءا لا يتجزأ من حياته منذ .1986 منذ هذا التاريخ، يعرض تلك الشواهد التي تحاول توقيف التاريخ في أمكنة وأزمنة محددة!.. ودافعه في ذلك حب اللقطات التاريخية وحب الجزائر التي يمكن التفسح في ظرف قصير عبر مختلف مدنها القديمة، والتوقف عند محطات مصيرية مر بها الجزائريون بالأمس الاستعماري، منها محطة الثورة النوفمبرية المغمسة بالروح الاستشهادية، صور هذا الحدث التاريخي المصيري لشعب اغتصبت أرضه منذ ,1830 تفترش رقعة جغرافية في شارع العربي بن مهيدي منذ 25سنة، تتحدث بدون كلمات عن تضحيات صنعتها شخصيات أبت إلا أن ترفع غبار الاحتلال الفرنسي عن جزائر جزائرية، يقول صاحب المعرض: ''هذه وسيلة اتصال تحكي التاريخ منذ 50 سنة للأجيال، وهي تستقطب الكثيرين ممن يستهويهم التنقيب عن تفاصيل الجزائرالمحتلة، وما أكثرهم من طلاب المدارس والجامعات، المختصون في التاريخ، مؤلفي الكتب، ومواطنين يبحثون عن ذاكرة الجزائر القديمة وشخصيات بارزة في ساحة التحرير''، ويستطرد: ''الرئيس الراحل هواري بومدين، مجموعة الستة، الشهيد العربي بن مهيدي، والعديد ممن صنعوا بطولة الجزائر النوفمبرية.. وصور نادرة منها صورة الرئيس الحالي بوتفليقة رفقة فرنس فانون، هي أكثر الصور طلبا من طرف الزبائن، ما يدل على اهتمام جيل اليوم بالتاريخ الذي صنعه الثوار بجهادهم ودمائهم''. ومن خلال الحديث مع ''المساء''، بدا أنه معتزٌ بهذه الهواية التي يعد أصحابها على الأصابع، ومصدر اعتزازه هو مساهمته في نشر حقائق تاريخية عبر الصورة في الوطن وخارج الوطن، حيث كانت له الفرصة للمشاركة في عدة معارض عربية ودولية، فضلا عن إجراء حوارات صحفية معه. عدة مقالات يضمها ألبومه، حيث أن اهتمامه بالتاريخ الجزائري أسال حبر عدة أقلام صحفية كان لزاما عليها أن تتوقف أمام لقطات تاريخية تشرح نفسها بنفسها، لتقدم للدارسين ما يغنيهم عن عشرات الكتب.. وأمام مصدر يؤرخ لحقب مهمة من تاريخ الثورة الجزائرية، والتي ينبغي على كل مواطن أن يعرفه ليقدر حجم التضحيات التي قدمها مجاهدو الأمس فداء للوطن.. وليعيش لحظات حقيقية في جو التلاحم بين أفراد شعب مضطهد. لاشك في أن تلك الصور المعروضة على قارعة الطريق بمثابة ثروة تاريخية في فائدة المواطنين والدارسين، ما يدعو إلى ضرورة البحث باستمرار عن كل ما يوثق تاريخ الوطن بلقطة واحدة تختزل الحقائق والأحداث.