أكد الأستاذ ياسين بوزامة أن الشيخ الراحل الحاج محمد العنقاء لو كان على قيد الحياة، لكيّف الطابع الشعبي مع متطلبات العصر التي تهتم بالسرعة والتقنيات الحديثة وتبتعد عن كل ما هو ممّل وثقيل. مضيفا أن العنقاء وضع بصمة عصرية على الشعبي عندما أدخل عليه آلات ونوتات جديدة، فأصبحت هناك مرحلتان للشعبي، مرحلة ما قبل العنقاء وأخرى ما بعده... وأشار بوزامة في المحاضرة التي ألقاها أول أمس رفقة الأستاذ محمد توزرت بمناسبة مرور 33 سنة على رحيل العنقاء (23 نوفمبر 1978)، وهذا بنادي التسلية العلمية، أن العنقاء لا يعتبر عميدا من بين أعمدة الطرب الشعبي، بل فارسه بدون منازع. مضيفا أن هذا الفنان العظيم جددّ هذا الطابع من خلال إدماجه آلات موسيقية جديدة مثل الموندول التي اعتبرها الفنان الراحل مناسبة جدا لأداء الشعبي. واعتبر المتحدث أن العنقاء لو عاش في وقتنا الحالي لقام أيضا بإدخال تحديث على الطابع الشعبي، باعتبار أن هدفه الأول كان دائما تحبيب الشعبي وتقريبه إلى الطبقة الشعبية مثلما فعل ذلك عندما اقتحم هذا العالم، حيث بسّط بعض التراث الأندلسي رغم احتجاجات بعض شيوخ الأندلسي الذين لم يرضوا بهذه التغييرات التي طرأت على الطابع الكلاسيكي، إلا أن العنقاء لم يأبه بهذه الانتقادات وواصل مشواره بكل تألق. ونوّه ياسين بالتجديد الذي احدثه المطرب الراحل كمال مسعودي على الشعبي، حيث بسط أكثر كلمات القصائد وادخل عليه آلات حديثة، وهو ما ساهم في انجاح الشعبي بطريقة أكبر مؤكدا في الصدد نفسه على خلود الشعبي وانتشاره غير المحدود. كما تطرق ياسين إلى قوة صوت العنقاء وجماله، حيث كان من الضروري أن يتحلى الفنان المؤدي للاغاني بصوت قوي في بداية القرن الماضي، إذ كانت الأغاني تؤدى في قاعات واسعة وبدون ميكرفون، بالإضافة إلى استعماله لآلة الموندول، وهو ما اعتبر سابقة لم يحدث لها مثيل في الطابع الشعبي، الذي كان يسمى بالمديح إلى غاية سنة ,1946 حيث كان الشعبي أو المديح يقدم بآلات بسيطة مثل القمبري والرباب والدف. من جهته، تحدث الأستاذ الباحث في الطابع الشعبي محمد توزرت، عن علاقة العنقاء بالنصوص التي كان يؤديها، فقال أن المطرب الراحل كان لا يؤدي نصا أو قصيدة إلا إذا فهمها جيدا وسبح في أعماقها وتغلغل في تفاصيلها، وفي هذا السياق اهتم العنقاء بالتدقيق في أصول اللغة العربية وخصص سنوات 1927الى 1932لاجل هذه المهمة، فكان متقنا للغتين العربية والفرنسية. وفي هذا السياق، قال توزرت انه سمع حوارا للأديب الراحل كاتب ياسين مع العنقاء واكتشف أن العنقاء يتقن أيضا اللغة الفرنسية بطريقة مبهرة، وأجاب بحكمة كبيرة على اسئلة الاديب كاتب ياسين. بالمقابل اشار المتحدث إلى أن العنقاء كان ذكيا جدا في ادائه للشعبي، إذ انه كان يأخذ ما يناسبه من القصائد الأندلسية مثل انصرافات والخلاصات وينصرف عن كل ما هو كلاسيكي جدا ولا يلائم الشعبي، مثلما انه كان يأخذ أيضا بعض الأبيات الشعرية من قصائد معينة (مثل أخذه لبيت واحد من قصيدة زواج سيد علي) أو انه يختار قصيدة أو اثنتين من ديوان شاعر ما مثلما كان عليه الامر عندما انتقى قصيدتين من دواوين الشاعر الندرومي. وكشف توزرت أن العنقاء في الكثير من الأحيان لم يقدم القصائد كاملة، وهذا إما للضرورة التسجيلية، إذ أنه في بادئ الامر كانت الاغاني تسجل في اسطوانات 78 لفة بثلاث دقائق ومن ثم 45 لفة بسبع دقائق ف 33 لفة التي استطاع العنقاء أن يسجل من خلالها قصيدة ''المكناسية''، وبعدها بفعل الضرورة التسجيلية الإذاعية والتلفزيونية التي كانت بدورها تستلزم تسجيل اجزاء فقط من القصائد، ليصل العنقاء إلى مرحلة استطاع فيها أن يقدم القصائد بكل عمق وإطالة. وتناول المحاضر تصريحا للعنقا، كشف فيه عن رغبته في تحطيم الأسطونات التي قدمها في بداية مشواره الفني وبالضبط الطقطوقات مثل ''ارفد صباطك وامشي''، كما اعتبر انه من الجميل؛ بل احيانا من الواجب أن يتم تقديم القصيدة كاملة حتى يفهم كنهها. مضيفا أن قصيدة ''الحراز'' قدم المطرب الراحل الهاشمي قروابي جزءا منها وامتنع عن أدائها كاملة وبالضبط أداء مقطع ''الشادي يشطح''. واعتبر محمد أنه من الصعب تحديد عدد القصائد التي قدمها العنقاء رغم انه يقال بأنه ادى 396 قصيدة، باعتباره لم يسجل كل الاغاني التي أداها، خاصة تلك التي قدمها في الإذاعة على المباشر، ولهذا من الصعب جدا وربما من المستحيل معرفة الرقم الحقيقي للقصائد التي غناها العنقاء . عودة إلى الأستاذ ياسين بوزامة الذي تناول في هذه المحاضرة أيضا، المسار الحياتي والغنائي للعنقا، فقال انه ولد في 20 ماي 1907بالقصبة، لم يدرس طويلا نظرا لصعوبة مزاولة الدراسة في عهد الاحتلال، انتقل إلى مدرسة قرآنية بالقصبة ''إبراهيم فاتح'' سنة 1912 وفي سنة 1914درس في مدرسة قرآنية أخرى ببوزريعة، ليتوقف عن الدراسة سنة ,1918 ويقتحم عالم العمل وعمره لا يتجاوز 11سنة. وكان العنقاء مولعا بالفن إلى درجة أقلقت والدته فاطمة بنت بوجمعة التي كانت بالكاد تجده، وهو الذي كان لا يغادر الأعراس والحفلات إلا وهو يردد في أعماقه النوتات والاغاني التي يسمعها، فاشتكت إلى سي السعيد لعريبي (موسيقي في جوق الفنان الشيخ مصطفى الناظور)، فأصبح يأخذ العنقاء إلى الأعراس التي يحييها، واكتشف آنذاك ميل الطفل الشديد للغناء، وكذا حفظه السريع للقصائد ومن ثم قدرته الفائقة فيما بعد على العزف على كل الآلات الوترية، الأمر الذي مكنه من الالتحاق بجوق الناظور سنة ,1925 ليصبح عاما بعد ذلك قائد الجوق بعد وفاة الناظور بتأييد من الجميع وعمره لا يتجاوز 19سنة. وشكلّت سنة 1928منعرجا كبيرا في المسيرة الفنية للعنقا، حيث أحيا الفنان حفل تدشين إذاعة الجزائر ''بي تي تي''، ومن ثم سجل 27 اسطوانة من 78 لفة، بعدها ركز سنوات 1927الى 1932 على إتقان اللغة العربية وهذا تحت إشراف العديد من الاساتذة، مثل سيد احمد ولد لكحل، وفي سنة 1931 توفي المطرب سعيدي عبد الرحمن منافسه في هذا الطابع، فأصبح العنقاء سيدا للمديح بدون منازع. وسجل العنقاء في سنة 1932 عشرين اسطوانة، وحجّ سنة 1936على متن باخرة ''مندوزا''، وفي سنة 1937 سجل قصيدة ''مندوزا''، وكانت سنة 1946 مهمة جدا في حياة العنقاء ، إذ قاد الجوق الشعبي في إذاعة الجزائر التي كان الشيخ بودالي سفير مديرها الفني وفي هذه السنة، سمي طابع المديح بطابع الشعبي. والتحق العنقاء في سنة 1955 بالمعهد الوطني الموسيقي، وعمل مدرسا هناك، وكان يرفض أن يقلده تلامذته، بل كان يحث على التجديد، وواصل تعليمه بعد الاستقلال، لتكون الحصيلة الرسمية لأعماله 130اسطوانة و360 قصيدة، وتوفى في 23 نوفمبر ,1978 إلا أن فنه بقي وسيبقى خالدا أبد الدهر.