هناك الكثير من المبدعين والملهمين الذين ما يزالون في ثنايا الكتب، لم تسلط عليهم أضواء التحقيقات والأبحاث والدراسات، وهناك أيضا أعلام جزائرية مازلنا نجهل عنها الكثير، وما تزال الدراسات حولها جارية كأي حفريات أثرية بين الفينة والأخرى، تكشف لنا عن موهبة، عن تحفة، عن قلم خطّ أدبا، نظم شعرا وترك أثرا علميا رائعا.. ومن جملة هؤلاء الأعلام الأفذاذ؛ الشاعر ابن خميس التلمساني الذي التقت ''المساء'' من خلال أشعاره بالدكتور والباحث أحمد طايعي، من جامعة مولاي اسماعيل (مكناس) بالمملكة المغربية الشقيقة، وأجرت معه هذا الحوار بتلمسان. - ركّزت في محاضرة ألقيتها مؤخرا في تلمسان على شعر ابن خميس التلمساني، فما هي ميزة ابن خميس الشعرية، وهل ابن خميس الشاعر هو ذاته ابن خميس المؤرخ؟ * هناك كتاب ابن عسكر مع ابن أخته، ابن خميس كتب كتابا في التاريخ وقام بتحقيقه عبد الله التوغي من تيطوان (المغرب)، أما ابن خميس الشاعر، فهو عبد الله محمد بن عمر الحميرى الحجري المعروف بابن خميس التلمساني، ولد بتلمسان سنة 645 ه، وقد عرف عنه التقوى والعزلة، وتكمن ميزاته في العديد من الأشياء، أهمها أنه شاعر بالفطرة والجبلة، وأن الصناعة الشعرية عنده لا تعتمد التكلف ولا التصنع، وإنما هي على السليقة والسجية، وهو شاعر يمتلك ذخيرة موسوعية شعرية، قرآنية، تاريخية وإنسانية، كما أنه قبل هذا كله، اطلع على اللغة العربية وتشبّع بمقوماتها الإعجازية، فكان متمرسا داريا باللغة والبلاغة والنحو والصرف وما إلى ذلك، بل أكثر من ذلك، تعمق في أصول الدين، فكان عارفا بحدود الشرع. - هل ابن خميس التلمساني كتب في جميع الأغراض الشعرية، أم أنه برز في غرض من الأغراض المعروفة في الشعر العربي؟ * ميزته أنه تطرق لجميع الأغراض الشعرية التي طرقتها الشعرية العربية القديمة، لكنه تميز وهو فارس فيها بشعر الحنين تغرب كثيرا، تعرض لمحن وويلات عديدة، بدءا بخروجه من تلمسان، مرورا بالعسفيين ب''سبتة''، وصولا إلى ''مالغا'' وغرناطة. - المحاضرة انصبت أيضا حول التناص في شعر ابن خميس، سواء بتضمينه للآيات القرآنية أو للشعر العربي القديم، فكيف توضح لنا ذلك؟ * شعر ابن خميس يتقاطع ويتناص مع كثير من نصوص الشعر العربي القديم بقدر ما كان متفاعلا ومتواصلا لها، بالقدر نفسه، كان متميزا مبتدعا في الصور الشعرية، وفي بناء الموضوعات التي جعلته بحق شاعرا يُحسد على مكانته الشعرية، لذا وجدنا رد فعله على هذا الواقع المر بلغة في بعض الأحيان، تبدو غريبة، وهو في ذلك، يبز الآخرين في ديباجتهم الشعرية ويظهر لهم علو كعبه في مملكة الشعر. - من المعروف أن شعراء المغرب العربي والأندلس يتميزون بشعر الطبيعة، فهل لابن خميس نصيب في وصف الطبيعة؟ * عندما يتحدث عن الطبيعة، وقد أكثر الحديث عنها، لا يتخذها غاية ومقصدا، وإنما هي وسيلة من وسائل كُثُر وظفها ليؤسس صورة نفسية عصيبة تجمع بين حبيبة متمنعة هي تلمسان وأشواق ملتاعة نحو هذه الحبيبة التي لا يجد لها سبيلا سوى هذا البناء الفني الراقي جدا، من عناصر الطبيعة التي تبدو في كثير من الأحيان عناصر طبيعية حزينة، ولعلها في ذلك، تأثّرا بكثير من عمالقة الشعر العربي بالأندلس آنئذ. - كيف بنى ابن خميس مرجعيته الشعرية؟ * استفاد ابن خميس في بناء مرجعيته الشعرية أو خلفيته الشعرية على القرآن الكريم، فأبدع في ذلك إبداعا منقطع النظير، سواء في قصيدته ''الخائية'' أو قصيدتيه ''الحائية والهمزية''، كما أنه استطاع أن يوظف الإعجازية في النص القرآني توظيفا لا يمس بقدسية الآيات القرآنية، مثل ''الرياح اللواقح''، نجده يضمنها ويقتبسها اقتباسا، والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على علاقة شعر ابن خميس بالمعطيات التاريخية والسوسيو ثقافية في كتاباته الشعرية إبان بني عبد الواد الزيانيين، فقد كان بحق راصدا لمجمل التحولات السياسية والثقافية التي مست تلمسان بخاصة، وبني عبد الواد عامة، وهذا لا يعني قطعا أنه كان يقيس الصناعة الشعرية لديه بمقياس المعطيات الخارجية، بل إن هذه المعطيات تأخذ صورتها التخيلية الابتدائية من داخل رؤيته للحياة والوجود. - ماهي المواضيع الأخرى التي وظفها في شعره؟ * بالنسبة لتوظيف بعض المواضيع الأخرى في شعره، فيصعب تبينها لأن المصادر تصمت على الكثير من الأخبار عن حياة هذا الشاعر الأسرية أو التلمذة أو المشيخة على أنه في الكتابة الزهدية والتصوفية، كان كذلك متميزا، وهذا بتأثير من المرحلة، ومما تشبع به من مقومات شعرية زهدية لدى ابن الفارض الذي عارضه بقصيدة طويلة وكذا بشعر الشيخ الغوث سيدي محمد بومدين. - لماذا الشاعر ابن خميس لجأ إلى الغريب في اللغة؟ * فيما يخص لجوءَه إلى الغريب، أو الغريب عند ابن خميس، فيبدو واضحا، لأنه كان إماما في اللغة، متمكنا من أسرارها، بل متقعرا في حالات كثيرة في توظيفها لخدمة الصورة الشعرية، ولعل النموذج التمثيلي في هذا ''الخائية الكبرى''، وهذا ما قرّ عند كثير من درسوا شعر ابن خميس، ونحن كنا نصارح هذه الدراسات فيما ذهبت إليه، فإننا في الآن نفسه نرى في نظرتها إلى الغريب عند ابن خميس حددا، ذلك أن الكتابة الشعرية تستلزم من الشاعر أن يمتح من معين لغة لا نعتبر فيها وحدات معجمية من صنف من الدرجة، وحدات من الدرجة الثانية، بل الأمر يتعلق بالبحث عن الكمال الشعري ومحاولة الوصول بالصورة الشعرية إلى أرقى مستوياتها، فإذا كان الأمر يتعلق بقطيعة معرفية بين المتلقي والشاعر ابن خميس آنئذ، فإننا نعتبر هذا الأخير بذخيرته اللغوية السامقة نموذجا تمثيليا لشاعر القرون الأولى من تاريخ الثقافة العربية بعامة، وشاعر القرن السابع بخاصة. - في أي طبقة من طبقات الشعراء نضع ابن خميس؟ * نضع ابن خميس بالطبقة الأولى من شعراء القرن السابع الهجري، في عهد المرينيين وأيام (عبد بني الواد)، حيث خرج سنة 703 من تلمسان غاضبا بعد أن مدح فيها بني عبد الواد، ولجأ إلى بني عمورة عند هجائه لبني زيان، ولم يقل ''يغموراسيين'' ولا بن خميس ديوان شعر مفقود، جمعه آنئذ عالم من علماء ''الحضرمي''، كما أن المرحوم عبد الوهاب بن منصور مؤرخ المملكة المغربية، له كتاب طبع سنة 1365 ه، سماه ''المنتحب النفيس في شعر عبد الله بن خميس''، كما أن الأستاذ طاهر توات قام بدراسة قيمة حول الشاعر سماها ''ابن خميس التلمساني شعره ونثره''. - ماهو انطباعك عن هذه الزيارة لتلمسان؟ * انطباعي عن هذه الزيارة.. يثلج الصدر لهذه الحفاوة التي وجدناها من الإخوة والأحبة الجزائريين، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن محبة الشعوب لا تنال ولا تتحقق إلا بالتواصل والتقارب، وهذا يذكرني إن عجز اللسان عن التعبير بمقولة الشاعر نزار قباني: ''كلماتنا في الحب تقتل حبنا إن الحروف تموت حين تقال'' - هل للأستاذ أحمد طايعي مؤلفات؟ * لي مؤلفات نقدية متميزة من بينها؛ ''القراءة بالمماثلة في الشعرية العربية القديمة'' و''التواصل البلاغي من المصرح به إلى المسكوت عنه''، و ''نص القراءة لدى علماء الغرب الاسلامي''، وأنا بصدد إصدار كتاب عن ابن خميس التلمساني؛ ''أشكال التناص في أشعار الشعراء''. وشكرا لجريدة ''المساء'' على هذا الاهتمام بتاريخ الأدب التلمساني.