خلال عقود مضت، كانت طاولة ''الطراح'' لا تكاد تفارق الأسواق الشعبية، حيث لا يمكن لأي عروس أن تستثني من جهازها الأفرشة الّتي يخيطها بإبرته الكبيرة بعد حشوها بالصوف.. لكن شيئا فشيئا، بدأ يختفي أصحاب هذه المهنة التي باتت تعيش آخر أيامها، بعد أن مات العديد من روادها، وتوجهت أنظار الكثير من العائلات نحو الأفرشة العصرية المستوردة. ولم يكن ''التطراح'' فيما مضى مقتصرا على فئة الرجال، فحتى النسوة كن يمارسن هذه المهنة بدرجة جد ملحوظة في البيوت، لاسيما وأنّ الأفرشة التقليدية لم تكن عرضة للمنافسة من الأفرشة العصرية المستوردة، ما جعلها مطلبا أساسيا وقتئذ. وكانت أفرشة الصوف أساس جهاز العروس، ولهذا، كانت الطلبيات على أصحاب هذه المهنة كبيرة، مما يدفعهم للعمل تحت الطلب والموعد المسبق. بالقصبة العتيقة، حيث يعمل ''الطراح'' ''الجيلالي''، تستوقفنا الذاكرة لتعود بنا إلى زمن كانت فيه هذه المهنة مزدهرة، على خلاف ما يجري اليوم.. فنتذكر آليا تلك الإبرة الكبيرة التي كان ''الطراح'' يستخدمها في خياطة الغطاء المحشو بالصوف، ليطرح في الأخير أنواعا مختلفة من الأفرشة غاية في الدقة والإتقان، مقابل مبالغ مالية محددة. ''الطراح الجيلالي'' الذي يتأسف لعدم وجود شباب يواصلون مسيرة هذه المهنة القديمة، ما زال متمسكا بعمل يدوي تعلم قواعده على يد الإسبان إبان فترة الاحتلال، يبلغ مشواره مع مهنة الصوف والخيط نصف قرن من الزمن.. يبدأ العمل منذ الثامنة صباحا ويتوقف عند حدود الخامسة مساء، خوفا من التعرض للاعتداء في القصبة التي هجرها العديد من سكانها الأصليين. مشهد هذا ''الطراح'' الذي يحتل رقعة جغرافية صغيرة بزوج عيون، يضع المارة أمام صورة تحمل بين طياتها بعض التفاصيل عن حياة تقليدية، بدأت تختفي تدريجيا، بعد ظهور أفرشة عصرية محشوة بمواد أخرى؛ كالإسفنج، الريش وغيرها، إذ اندفع السواد الأعظم من الناس نحو شراء الفراش الجاهز، لاسيما وأنّ هذا الأخير يغنيهم عن شراء الصوف ويختزل تعب عملية غسله، وتنقيته من الشوائب، قبل تسليمه ل''الطراح''. ففي الوقت الّذي ما زالت فيه بعض العائلات حريصة على استعمال الصوف عند صنع الأفرشة تمسكا بالأصالة، تميل عائلات أخرى إلى شراء الأفرشة الجاهزة المستوردة لتسهيل مهمة الحصول على الفراش، ما يفسر رمي العديد من ربات البيوت لفروة كبش العيد، خاصة بعد أن أطلق بعض الأطباء تحذيرات بخصوص أمراض الحساسية التي قد تنجر عن استعمال الصوف. مع هذه الظروف الجديدة في حياة اليوم، أخذت هذه المهنة تسير في طريق الزوال تدريجيا، حيث أصبحت نادرة جدا، ورغم أنّ بعض ''الطراحين'' يُشهرون أرقام هواتفهم على الجدران لجذب الزبائن، إلاّ أنّ عامل الثقة لا يحفز الكثيرين لاستقبالهم في بيوتهم، يؤكد محدثنا. ويصف المصدر مهنته بالمتعبة، خاصة في أيام الحرارة، مضيفا أنّ ممارستها تصبح غير ممكنة في أيام الشتاء بسبب الأمطار. ومع ذلك، لابّد من التحدي، خاصة وأنّ وجود ''الطراح'' في وسط الناس الذين أبوا التخلي عن التقاليد لا غنى عنه، ويصير حضوره ضروريا أكثر حينما تقترب مناسبات الفرح، لتحمل العروس ''مطارح'' ووسادات محشوة بالصوف على طريقة الجدات. ولا تتوقف الطلبيات التي يسجلها هذا ''الطراح'' عند حدود العاصمة، إنّما تصله من عنابة، جيجل والبليدة، بعد أن ذاع صيته من جهة، وقل عدد ممارسي هذه المهنة من جهة أخرى. وتقوم عملية ''التطريح'' بحشو القماش المزين بالصوف إلى غاية أن يتخذ وضعية مستوية، لتعقبه خطوة شد كافة جوانب الفراش بالإبرة والخيط.. وفي هذا الشأن، يذكر صاحب المهنة ل ''المساء''، أنّه تعلمها منذ سن ال 13 بالقصبة، رفقة العديد من الشباب الذين تتلمذوا آنذاك على يد الإسبان، حيث أنّ ممارستها سهلة، إنّما تتطلب قدرا كبيرا من الصبر. ويتابع أنّه يزاوج عملية ''التطريح'' مع تزيين الفراش برسومات يبتكرها خياله.. وقد مر حتى الآن حوالي نصف قرن على مزاولة هذه المهنة، دون أن يسفر ذلك عن تكوين شباب، نظرا لافتقاره إلى ورشة خاصة، واحتقار شباب اليوم لهذه المهنة أيضا. وعلى ضوء هذه المعطيات، يقول متأسفا؛ إنّ هذه المهنة آيلة للانقراض لا محال، ففي باب الوادي مثلا، مات مؤخرا آخر ممارس لهذه المهنة، ولا وجود لمن يخلفه، كما هو الحال في باقي الأحياء الشعبية، حيث اختفت طاولة ''الطراح''. ويضيف بنبرة من الحسرة، بأنّه سبق له وأن اقترح على مراكز التكوين المهني تعليم هذه المهنة لفئة الشباب، لكنّ طلبه قوبل بالرفض، من منطلق أنّ ''التطريح'' لا يدخل في قائمة المهن التقليدية.. وفي نظره، هذا التهميش لا يليق بمهنة شريفة أساسها مادة أولية مذكورة في القرآن الكريم.