تعتبر السيدة سليمة مازري بجاجة، الأستاذة في الهندسة المعمارية بجامعة قسنطينة ومبدعة في مجال اللباس التقليدي، أن الجزائر تمر بأزمة هوية حقيقية، بسبب فقدان المعالم التي تحددها سواء في اللباس أو في بناء السكن، مشيرة بكل أسف إلى استلهام مصممين عالميين الموضة من تقاليدنا وإعادة تصديرها لنا، وفي هذه الحالة فقط، يقبل الشباب على ارتدائها تقليدا لما يأتيهم من الغرب. وبدا غريبا موضوع المحاضرة التي ألقتها السيدة بجاجة في الوهلة الأولى ضمن نشاطات المهرجان الوطني لإبداعات المرأة في قصر رياس البحر، إذ جاء تحت عنوان؛ ''اللباس، السكن: بشرة حساسة''، لكن سرعان ما أثبتت المتحدثة العكس، عندما أشارت إلى أن هناك ارتباطا وثيقا بين بشرة الإنسان، لباسه وسكنه، لأن العامل المشترك بينهم هو ''حماية الإنسان'' من العوامل الخارجية. لكن بعيدا عن الحماية، فإن كلا من اللباس والسكن يحملان معالم لهوية، خصوصية وشخصية الإنسان، وكذا ثقافته والحضارة التي ينتمي إليها، في حين أن الفرق الوحيد بينهما هو المواد التي يستخدمها الخياط أو المهندس المعماري في تصميم كل منهما. ولم تتردد المحاضرة في البداية، بالتذكير أن فهم أي مجتمع يمر عبر ملاحظة ''كيف يلبس وكيف يبني''، مستشهدة ببعض الصور التي تظهر بناءات تقليدية ونساء يرتدين أزياء تقليدية تنسجم مع سكنها. كما تعرضت بالشرح إلى أهم مصادر الإلهام عند تصميم ملابس أو سكنات، وهي الإنسان بحد ذاته والطبيعة، حيث عرضت صورا لأنواع مختلفة من البناءات؛ كالخيم وبيوت الإسكيمو التي اخترعها الإنسان، استجابة لمتطلبات المناخ المحيط به، مضيفة في السياق، أن مثل هذه النظرة تعود في عصرنا الحالي من جديد عبر باب ''حماية البيئة''. وترى أن هناك خمسة أدوار رئيسية يشترك فيها اللباس والسكن بحياتنا، أولها الدور البديهي وهو ''الحماية''، حيث تعتبر أنه مثلما تحمي البشرة صاحبها من تأثيرات العوامل الخارجية، فإن كلا من اللباس والسكن يؤديان نفس الدور، لذا، فإن تصميمهما يأخذ بعين الاعتبار هذا الدور في شكله ومضمونه، وحتى اللون له أهميته، بدليل أن اللون الأبيض هو الأفضل في درجات الحرارة المرتفعة، ''لذا نلاحظ أن المدن المعرضة للحرارة تمتاز ببيوت مصبوغة بالأبيض، وهو ما نلاحظه في المدن الساحلية، كما أن الناس يفضلون ارتداء الأبيض والألوان الفاتحة صيفا، والعكس صحيح''. وهذا الدور يدفع المصممين إلى ابتكار أساليب جديدة في تصميم الملابس والبيوت، وتعطي أمثلة عن تصميم ملابس وبيوت مضادة للرطوبة والماء، أو مضادة للحرارة والحرائق، أو عازلة أو مقاومة، خفيفة ومتينة. الحفاظ على الحميمية والاحتشام، هو دور ثان تتحدث عنه المهندسة المعمارية، التي وإن لم ترغب كثيرا في التعمق بهذه الفكرة حتى لاتثير بعض الحساسيات، فإنها أشارت إلى أن هذا الدور يختلف بين مجتمع وآخر، وثقافة وأخرى، وهو يطرح مسألتي ''التفتح والانغلاق''. توضح قائلة؛ ''هناك بعض المجتمعات لاترى أي مانع في أن تعرض نفسها أمام الآخرين، وهو مايجعلها متفتحة، وينعكس ذلك على اللباس الذي يبدو أكثر ميلا لإظهار أجزاء من الجسد وشفافا، كما ينعكس على البيوت التي تتميز بنوافذ كبيرة، واجهات مفتوحة وأسقف غير مغطاة، في حين أن المجتمعات التي يمكن وصفها بالمنغلقة، فإنها تتميز بارتداء أفرادها للباس أكثر احتشاما يغطي كافة أجزاء الجسم تقريبا، مثلما نجده في الجزائر لدى النساء اللواتي يرتدين الملاية أو الحايك أو الملحفة...الخ، وبيوت ذات نوافذ صغيرة لايبدو جمالها خارجيا، لكنها تركز كل إبداعها داخل البيت، مثلما نلاحظه في قصر رياس البحر الذي نتواجد به''. أما الدور الثالث الذي تستعرضه المحاضرة، فهو ''الوضوح''، فبالنسبة للباس يعمل هذا الدور على تعريف الآخرين بالشخص الذي يرتدي الزي، مثلما هو حال الشرطي أو الدركي أو الطبيب...الخ، إذ يعلن لباسه بوضوح عن مهنته، وهو مانجده كذلك عند بعض الطوائف أو المجموعات الدينية. نفس الأمر ينطبق على الأبنية، فمثلا تشير المساجد والكنائس إلى الهوية الدينية للبناء من خلال شكلها، كما يمكن اكتشاف الفترة الزمنية أو الانتماء الجغرافي لبعض الأبنية من خلال شكلها فقط. ومن هنا، تبرز أهمية الدور الرابع وهو ''الرمز''، إذ تشير بالقول؛ ''إن كل مانلبسه وكل مانشيده من مبان، له معنى حتى لو لم نكن نعي ذلك أو نعتبر أن الأمر مجرد اتباع للتقاليد والعادات، ومايدل على ذلك هو الاختلاف في ذلك بين شخص وآخر، رغم انتمائهما لنفس المجتمع، وكذا الاختلاف بين مجتمع وآخر''. في نفس الإطار، يمكن وضع الدور الأخير، وهو كون اللباس والمسكن عبارة عن ''صورة'' تعرض أمام الآخر، لتوصل رسالة توافق هوية مصممها، ''كل الشعوب تبحث عن الجمال''، كما تقول السيدة بجاجة، ولكن الاختلاف يكمن في كيفية تخيل هذا الجمال وتجسيده في تصاميم يبحث أصحابها عن ''المثالية''. وترى أن فكرة أوراق الهوية تبرز هذا الدور، مذكرة بالجدل الواسع الذي عرفته فرنسا حول موضوع ''الهوية الفرنسية'' في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. وهنا بدا أسفها واضحا، بسبب فقدان معالم الهوية الجزائرية في لباس ومساكن الجزائريين؛ ''للأسف، نحن نفقد كل معالم هويتنا، فشبابنا يرتدي الألبسة الأجنبية بدل البحث عن لباس يتوافق وهويتنا، نحن نعيش أزمة هوية حقيقية، ويظهر هذا جليا -على سبيل المثال- في تصديرة بعض العرائس اللواتي أصبحن يلبسن الأزياء الهندية وحتى الصينية، بدل الأزياء التقليدية الجزائرية، ونفس الأمر ينطبق على نوعية الهندسة المعمارية لأبنيتنا التي لم تعد تحمل أي معالم لحضارتنا وثقافتنا''. وإذ أرجعت هذا الوضع إلى انعكاسات العولمة التي أثرت على التناسق بين الفرد وأصالته، فإنها أثارت مسالة هامة، وهي لجوء مصممين عالميين إلى الاستلهام من خصوصياتنا وعرضها، مثلما حدث مع ''السروال'' الذي انتشر في أوروبا ليدخل إلينا من بوابة الغرب ويقبل عليه شبابنا، مشيرة أن هذا الأمر ينطبق على كل الدول الإفريقية، حيث اختير قماش ''الوكس'' الإفريقي ليشكل موضة صيف 2012 بأوروبا، على سبيل المثال. ولأنها تقوم بتصميم ملابس تقليدية وإكسسوارات مستوحاة من تقاليد كل مناطق الجزائر، فإن السيدة بجاجة تطمح لأن يعمل الجزائريون على إعادة إحياء الهوية الجزائرية عبر اللباس والبناء، من خلال تشجيع الإبداع والابتكار في هذا المجال.