توسعت موجة الاحتجاجات على الفيلم المسيء للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى كل البلاد الإسلامية وأصبحت تنذر بما هو أسوأ في حال استمر أصحابه في غيهم وراحوا يصرون على المس بأقدس مقدسات المسلمين بدعوى حرية التعبير، الذريعة التي رفعتها الدول الغربية للتنصل من مسؤوليتها المباشرة في كل ما حدث وسيحدث. ولم يكن خروج مئات الآلاف من المتظاهرين في كل العواصم وكبريات مدن البلدان الإسلامية إلا رد فعل طبيعي كان شعارهم فيه “إلا أنت يا رسول الله” في رسالة أكدوا من خلالها أن شخص نبي الإسلام خط أحمر لا يجب أن ينتهك حتى تحت طائلة حرية التعبير، التي ما انفكت الحكومات الغربية تتوارى وراءها من أجل رمي المسؤولية عنها كلما تعلق الأمر بالإساءة إلى نبي الإسلام. لكن هذه العواصم لا تتوانى لحظة في ملاحقة وإدانة وسجن كل من يشكك في المحرقة الوهمية التي تزعم الدعاية الصهيونية أن اليهود تعرضوا لها على يد النازية الهتلرية خلال الحرب العالمية الثانية. والواقع أن حادثة قنصلية مدينة بنغازي الليبية ومقتل السفير الأمريكي فيها لم يكن إلا مجرد شرارة أولى أوقدت لهيب غضب المسلمين في كل بقاع العالم ويتعين على العواصمالغربية تحمل مسوؤلياتها لأن الأمر لم يكن يخص الولاياتالمتحدة لوحدها في قضية تهم الغرب المسيحي كله ممن أراد أن يوهمنا أن حرية التعبير أمر مقدس حتى وإن مست في مقابله أقدس مقدسات أمة بأكملها. وهي ذريعة تصر الدول الغربية على رفعها رغم أنها تدفع ثمن تهور متطرفيها من الأصوليين المسيحيين الذين تبنوا فكرة تزاوج التطرف المسيحي-الصهيوني الجديد والذي وضع الإسلام والمسلمين هدفا لحرب جديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة. والمفارقة أن حكومات هذه الدول عندما راحت تدافع عن أصحاب الفيلم بطريقة ضمينة تحت غطاء الحجة الواهية لحرية التعبير لم تراع في ذلك قدسية دساتيرها وكل المواثيق الدولية بحماية معتقدات الآخرين درءا للفتنة الدينية وصراع الأديان. وهي القناعة التي تزعم هذه الدول وحتى الكنيسة البابوية في روما أنها تعمل من أجلها عبر ما أصبح يروج له في السنوات الأخيرة تحت عنوان حوار الأديان السماوية والتي تأكد من خلال هذا الفيلم وكل الرسومات والكتب المسيئة للدين الإسلامي ولنبيه وحتى تصرفات التبول على المصحف الشريف أنها لم تكن سوى غطاء لنزعة عدائية شرسة ضد أتباع أحد هذه الكتب المنزلة. وهي تصرفات مقصودة أيضا وجاءت لتدحض مضمون خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الرابع جوان 2009 أمام طلبة جامعة القاهرة المصرية الذي سوق من خلاله رسالة مهادنة وصلح ومصالحة مع الإسلام والمسلمين إلى درجة جعلت هؤلاء يعتقدون مخطئين حينها أن تحولا جوهريا ستعرفه السياسة الأمريكية تجاه الشعوب الإسلامية قبل أن يصابوا بخيبة أمل كبيرة وهم يقارنون مضمون ذلك الخطاب وبين واقع التعامل الغربي-المسيحي المستوحى من الفكر الصهيوني مع كل ما يمت بصلة إلى الدين الإسلامي. وحتى دعوة التعايش التي نادى بها البابا بنديكس السادس عشر، أمس، باتجاه المسلمين والمسيحيين في بداية زيارته إلى لبنان فقدت كل معنى لها ومسلمون يقتلون في مظاهرات احتجاجية رافضة للنيل من نبيهم الذي نعت بأقبح الأوصاف. ولا يمكن نتيجة لكل ذلك أن يحاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي تحدث تحت وقع الصدمة بمقتل سفير بلاده في بنغازي الليبية عن حرية التعبير عندما تداس أدنى قواعد هذه الحرية التي تعتمد مبدأ انتهاء حريتي عند بداية حرية الآخرين. وهو مبرر جاء ليؤكد مرة أخرى أن الدول الغربية والمسيحيين بصفة عامة لم يفهموا إلى حد الآن طبيعة العلاقة بين المسلمين ودينهم عامة ورسولهم خاصة والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال رهنها بفهم غربي ضيق لفكرة حرية التعبير التي تسمح لأصحابها بانتهاك حرية المعتقد. وتلك هي إشكالية مأزق علاقة الشرق المسلم والغرب المسيحي التي يتعين أن تبنى على أسس جديدة تراعي فعلا مبدأ احترام الآخر وليس الاعتماد في كل مرة بالصورة النمطية التي ألصقت بالمسلمين على أنهم ظلاميون والغرب مستنير يجب أن يقتدى به في كل الأحوال. وهي جدلية لن تطفئ نار الفرقة بينهم، خاصة عندما تحرص الصهيونية العالمية على تأجيجها كلما أرادت ذلك.