قطعت الجزائر أشواطا مهمة في مجال محو الأمية، لا سيما لدى كبار السن ممن لم تسمح لهم ظروف الحياة بالتعلم، ولا أحد يستطيع وصف الفرحة الكبيرة التي تعتري سيدة ستينية عندما تتمكن أخيرا من القراءة، لا سيما إذا تعلق الأمر بالقرآن الكريم... لكن المختصين في الميدان يؤكدون على ضرورة بذل جهود أكبر من أجل التخفيف من حدة الظاهرة حتى لا نقول استئصالها، وكذا العمل على دمج محو الأمية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، حتى لا يكون الأمر مجرد تعليم الكتابة والقراءة. وليس جديدا ان نقول ان الأمية ظاهرة تعرفها كل الدول حتى المتطورة منها، لكن بنسب متفاوتة. ويحصي عالم اليوم حوالي 774 مليون أمي أي ما يمثل 20 بالمائة من مجموع السكان، فيما يبلغ العدد في العالم العربي 100 مليون أي ما يعادل 35 بالمائة من إجمالي السكان. أما في الجزائر فإن آخر الإحصائيات تشير إلى وجود 6 ملايين أمي، لكنها تبقى غير دقيقة حسب الكثير من العارفين في هذا الميدان، إذ تبقى الأرقام المعلن عنها بعيدة عن الواقع لأنها تجمع على أساس لا يعبر عن الحقيقة في نظرهم، لكن الأكيد أن نسبة الأمية ببلادنا عرفت تراجعا محسوسا لا يمكن إهماله، حيث انتقلت من 85 بالمائة غداة الاستقلال في 1962 إلى 22.1 بالمائة في 2008 وهي الآن في حدود ال19 بالمائة حسب آخر التقديرات. والملاحظ أن نسبة الأمية ترتفع في المناطق الريفية لا سيما لدى النساء، وذلك لأسباب مختلفة منها الأضرار التي تعرضت لها الكثير من المدارس في التسعينيات جراء حرقها أو غلقها بسبب الأوضاع الأمنية السائدة حينها، وهو ما حرم الكثيرات من الالتحاق بالمدارس، دون إهمال العوامل الاجتماعية. والحديث عن الأمية يقودنا إلى التطرق إلى التمدرس لأنهما مرتبطان، وهو ما تؤكد عليه السيدة عائشة باركي رئيسة جمعية “إقرأ” التي تعتبر أن القضاء على الأمية يمر أولا عبر التساؤل عن أسباب عدم التحاق بعض الأشخاص بالمدارس. وبالأرقام يوضح السيد فروخي وهو مختص في مجال محو الأمية، أن نسبة التمدرس عالميا وصلت إلى حدود 92.1 بالمائة، أما في الجزائر فإنها تصل إلى 94 بالمائة وهو ما يعني أن 6 بالمائة من الأطفال لا يلتحقون بالمدرسة، وهؤلاء هم مشاريع أميين مستقبليين، لذا تعتبر السيدة باركي ان البحث في أسباب عدم تمدرس هؤلاء عمل رئيسي يجنب زيادة عدد الأميين ببلادنا، وبالتالي يخفف من الاحتياجات في هذا المجال ويسمح بتحقيق هدف القضاء على الظاهرة. وفي حال عدم الاهتمام فإن الأمور ستنعكس ولن تكفي كل الجهود المبذولة، لا سيما وأن مسالة التسرب المدرسي تطرح بدورها وبشدة، دون الحديث عن نوعية التعليم التي لا تستجيب أحيانا للمقاييس الضرورية من اجل تخريج جيل مندمج مع مجتمعه وعالمه. فحسب المتحدث توجد فئتان ضمن نسبة ال6 بالمائة، الأولى هم أطفال من 6 إلى 15 سنة سجلوا في المدارس ولكنهم تركوا مقاعدها، والفئة الثانية هم أطفال لم يسجلوا أصلا، وذلك حسب دراسة أجراها المركز الوطني للدراسات حول السكان. وعن أسباب التوقف عن التعليم توضح الدراسة التي أجريت في 2006 ان أهمها هي: قرار الطفل ترك الدراسة طوعا بنسبة 35 بالمائة، ومعارضة الأولياء التحاق الأطفال بالمدرسة، لا سيما الإناث، بنسبة 20 بالمائة والتهميش بنسبة 15 بالمائة. أما بالنسبة لفئة غير المسجلين بتاتا، فإن الأسباب حسب ذات المصدر، راجعة إلى: قرار الأولياء بعدم تسجيل أبنائهم، ثم بعد المدارس، لا سيما في المناطق الريفية، إضافة إلى مشاكل مادية لا تسمح لهم بتوفير حاجيات أبنائهم الدراسية. ومع ذلك فان قراءة للأرقام تشير إلى أن الأمية انخفضت كثيرا لدى فئة الصغار بفضل تعميم التمدرس، وهي أكثر انتشارا لدى الفئات الكبيرة، وتنتشر في الأرياف أكثر من المناطق الحضرية بنسبة 32 بالمائة للأولى و17 بالمائة للثانية. كما أن انخفاضها لدى النساء اكبر، وهو ما يدل عليه العدد المرتفع للملتحقات بأقسام محو الأمية التي يخلو أغلبها من الرجال. ويشير الأخصائي إلى أنه في حالة استمرار الجهود المبذولة لمحو الأمية بنفس الوتيرة، فإن نسبة الأمية بالجزائر ستنخفض إلى 15 بالمائة في 2015 وإلى 12 بالمائة في 2018، لكنه يؤكد أن الإحصاء نظري، أي أن الأمر يتعلق بمجرد تقديرات، فبالنسبة إليه يقتضي “حلم” القضاء الكلي على الأمية ببلادنا في آفاق 2018، مضاعفة الجهود المبذولة بين 1998 و2008. وتشدد السيدة باركي رئيسة جمعية “إقرأ” التي تعد واحدة من 20 جمعية ناشطة في ميدان محو الأمية بالجزائر، على أهمية الوصول إلى دمج محو الأمية بالتكوين أو كما تقول “التكوين بمحو الأمية” الذي يسمح بإدماج المتعلمين في المجتمع ويمكنهم، خصوصا، من تعلم حرفة وبالتالي ولوج عالم الشغل. وبرأي السيدة باركي، فإن ما قامت به جمعيتها من عمل يمكن الافتخار به رغم بعض النقائص المسجلة، وهي في هذا الشأن تنتقد بعض جوانب الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية التي تقول أنها انحرفت عن هدفها حسبما تمت ملاحظته من خلال الممارسة الميدانية، وتشير إلى بعض العوامل التي أدت إلى التأخر في العمل أهمها: محتوى الكتب وتكوين المعلمين وكذا وضعهم، إذ لايتقاضون رواتبهم إلا بعد سنة من الممارسة في أغلب الأحيان. ولا تتردد في القول بأن انضمام الجمعية للإستراتيجية خلق لها مشاكل لا سيما وأنها كانت تعتمد على المتطوعين في عملها، ولهذا تطالب بضرورة فتح الحوار بين الاطراف المعنية أي الجمعيات والديوان الوطني لمحو الأمية، التي عليها ان تجلس حول طاولة واحدة لتقييم الاستراتيجية... “فمثلا كان من المفترض إعداد برنامج تلفزيوني خاص بمحو الأمية أتساءل أين هو ولم لم ينجز بعد؟”. ولان المعلم طرف جد هام في معادلة محو الأمية، فإننا اقتربنا من السيدة “فائزة ضياف” التي قضت قرابة العشرين سنة وهي تعلم من حرمتهم الظروف من معرفة القراءة والكتابة، وذلك في إطار تطوعي مع جمعية “اقرأ”، تقول محدثتنا “التحقت بالجمعية في 1996 بالصدفة، لكن في حقيقة الأمر حب التعليم في دمي، فأمي وخالاتي عملن بالتعليم”. وعن تجربتها تؤكد انها كانت جيدة منذ البداية رغم صعوبة المهمة الملقاة على عاتقها، لكن توفير الجمعية للإمكانيات اللازمة، لا سيما الكتب، خفف من ثقلها وأعان المعلمات على أداء دورهن الذي لا يختلف اثنان في أهميته، إذ أن هؤلاء مكلفات بإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم، لا سيما أولئك الذي تقدم بهم السن وهم يجهلون تفكيك رموز الحروف التي يصادفونها في كل مكان، فيشعرون أنهم أكثر إعاقة من الذين فقدوا أحد أعضائهم. لهذا فإن السيدة فائزة رفضت التوقف عن أداء مهمتها النبيلة رغم عملها في مجال العقار، وهي كلها حماس لتواصل المسيرة، التي بدأت بأقسام متعددة في كل من بوزريعة والأبيار، حيث ستواصل عملها بداية من أكتوبر المقبل تاريخ بداية الدراسة في متوسطة الحارثية. ومن خلال عملها الميداني، تشير إلى أن أكثر الملتحقات بأقسام محو الأمية هم من النساء الكبيرات في السن اللواتي يحلم اغلبهن بتعلم اللغة العربية من اجل التمكن أخيرا من قراءة المصحف الشريف وحفظ بعض سوره وفهمها دون الاستعانة بأحد، وهو ما يمثل بالنسبة إليهن انجازا عظيما. لهذا فإنهن لا يترددن أبدا في الاعتراف بمجهود معلماتهن اللواتي يصبحن مع الوقت بناتا لهن، وهو ما تشير إليه فائزة عندما تقر لنا “مع الوقت الكثير من السيدات اللواتي درستهن أصبحن صديقات وتستمر علاقتنا اجتماعيا فنتبادل حتى الزيارات، وكذا الدعوات للمناسبات والأعراس”. وتشيد محدثتنا بالنظام التعليمي لجمعية “إقرأ” الذي يتم في ثلاث سنوات والذي يعادل من خلال برامجه -كما تقول - فترة الابتدائي كلها. “فالجمعية تقدم الأشياء المهمة والمفيدة من خلال منهاج خاص للمتمدرسين، لذا فإن ما يتعلموه في ثلاث سنوات يعادل ست سنوات، فالكتب تعد حسب حاجة هؤلاء وحسب رغباتهم، وهي بالتالي أكثر عملية”. وفي هذه الأقسام نجد كذلك فتيات في عمر الزهور لم يسعفهن الحظ لاستكمال الدراسة، فيلجأن إلى مراكز محو الأمية من اجل استعادة مسيرة تعليمية، يطمحن إلى أن يصلن إلى أعلى المستويات،لا سيما وأن الدراسة متاحة عن طريق المراسلة. وتلفت فائزة الانتباه إلى ان الجمعية عمدت إلى ربط محو الأمية بالنشاطات اليدوية والحرف منذ التسعينيات، وفي عز الأزمة الأمنية التي عاشتها بلادنا، لم تتردد في فتح اقسام حتى بالأحياء التي عانت كثيرا ومكنت النساء من دمج تكوينهن التعليمي بتكوين حرفي.