رحل الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد بعد 20 سنة من مغادرته السلطة في الجزائر التي أحبها وأحب شعبها، ليبقى في صفحات تاريخها كواحد من أبرز الرموز الذين صنعوا ثورتها واستقلالها ورسموا نهج الانفتاح السياسي والإقتصادي الذي سلكته بفضل قراراته الشجاعة، تستلهم الأجيال من قوة شخصيته ومواقفه، التي حاول الكثير من الخصوم تغييبها عن هذا الرجل الذي لم تعرفه فئة كبيرة من أبناء الوطن وخاصة منهم الشباب، الذين اكتشف الكثير منهم شخصية الرئيس الأسبق من خلال الشهادات الحية التي أدلى بها رفقاؤه ومعاونوه فأنصفته وأعادت له هيبته. لقد تضاربت المواقف والآراء حول شخصية الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد بين أفراد الجيل الذي عرف الرجل وعايش فترة حكمه التي امتدت لثلاث عشرة سنة، وصادفت ظروفا متناقضة ومعقدة على المستويين الداخلي والخارجي، مما جعل جيل الشباب الذي لم يشهد هذه المرحلة يترنح بين الموقفين وبقي رهين الغموض والتناقض الذي خلفته الأحكام المختلفة والمتناقضة أحيانا حول شخصية الشاذلي، بين متعاطف مع مواقف الرجل ومؤيد لها، ومعارض لما ميز فترة حكمه من قرارات صنعت جزءا من تاريخ هذا الوطن. ولعل ما زاد في تراكم ذلك الغموض في أذهان هذا الجيل من شباب الجزائر، الصمت الذي لزمه المعني في حد ذاته خلال 20 عاما من مغادرته الحكم، وكذا صمت الرجال الذين عرفوه عن قرب سواء رفاقه في الكفاح المسلح أو في تسيير شؤون البلاد إبان فترة رئاسته للجمهورية. ولعل من حسن حظ الأجيال أن الرجل خلف مذكرات ستلقي بالضوء على الكثير من المراحل الغامضة التي ميزت فترة حكمه وتفك العديد من الألغاز التي أثيرت حولها، ولو أن الشهادات الحية التي أدلى بها الكثير من رفقاء دربه، أثناء تشييع الرجل، أوفت الرجل حقه وأعادت له هيبته ومكانته، فأنصفته وأنصفت الجيل الراغب في معرفة خبايا هذا الرئيس الذي تحدى صعاب وتناقضات الفترة التي قاد فيها البلاد، واستعان خلالها بحكمة كبيرة في التعامل مع الظروف والأوضاع التي واجهتها. فقد استحق المرحوم الرئيس الشاذلي بن جديد لقب رجل المواقف الصعبة، بفضل القرارات الشجاعة التي لم يتوان في اتخاذها عندما استدعت الضرورة مجابهة التحديات الكبرى سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. فهذا الرجل الذي اتهمه البعض باطلا عند تعيينه على رأس الدولة في 1979، بأنه "جاء من العدم، ولم يكن يشكل رقما فاعلا ولا شخصية لها وزنها خلال تلك المرحلة"، يشهد له التاريخ وزملاؤه في الكفاح المسلح، بأنه يبقى من أبرز الثوار الذين قادوا الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي في المنطقة الشرقية التي كانت تشهد أشرس المعارك منذ اندلاع الثورة التحريرية، حيث تقلد المناصب والمسؤوليات التي سمحت له فيما بعد بتأدية دوره بامتياز في بناء الدولة الجزائرية الحديثة، حتى أن هناك الكثير ممن عرفوا الرجل على غرار رئيس حكومته قي 1991 السيد مولود حمروش، يعتبرون مواقف وقرارات المرحوم الشاذلي بن جديد لا يمكن فصلها أبدا عن كونه واحدا من رجال الحركة الوطنية الذين أثرت فيهم كثيرا الفترة الاستعمارية، فيما رأت شهادات أخرى قوة شخصية الرئيس الشاذلي بن جديد في نجاحه في حمل عبء مرحلة صعبة من مراحل البلاد، حيث تمكن من ملء الفراغ الذي تركه غياب الرئيس الراحل هواري بومدين في قلوب الجزائريين. ولا أحد من الجزائريين الذين شهدوا فترة بداية الثمانينيات يمكنه أن ينكر اليوم فترة الرخاء والرفاه التي ميزت هذه المرحلة في تاريخ الجزائر، وهنا يذكر وزير خارجيته آنذاك الدكتور احمد طالب الإبراهيمي، أن المرحوم اتسم بإرادة قوية وحرص شديد على تحسين الحياة اليومية للمواطنين، ويشير في هذا الصدد إلى قراراته التاريخية المرتبطة بإلغاء شرط الحصول على رخصة لمغادرة التراب الوطني، وبيع سكنات الدولة للمواطنين. كما عمل الرئيس الراحل خلال هذه المرحلة على إرساء أسس الديمقراطية وتبني اقتصاد السوق في الحياة الاقتصادية، وعلى صعيد العمل الخارجي، حرص على تقوية علاقات الصداقة وحسن الجوار والإسهام بفاعلية في إطلاق بناء صرح الاتحاد المغاربي مع إبرازه الدائم لمواقف الجزائر الثابتة إزاء القضية الفلسطينية والقضية الصحراوية ونصرة كافة القضايا العادلة في العالم. وتشاء الصدف أن تصطدم قيادة البلاد بالأزمة الاقتصادية التي ضربت الدول النفطية في 1986، لتشكل هذه المرحلة فترة مفصلية عبدت الطريقة لانتهاج الشاذلي بن جديد لسياسة مغايرة في تسيير شؤون البلاد، لاسيما بعد أحداث أكتوبر الأليمة التي كان لها وقعها وتأثيرها على الشاذلي الرجل الحساس وعلى الشاذلي الرئيس الذي يمتلك ما يكفي من الحكمة والتبصر في القيادة وفي التعامل مع المراحل الصعبة. ولما كان الحديث عن "الربيع العربي" الذي عصف بالكثير من الحكام في البلاد العربية في السنتين الأخيرتين، أعاد إلى الأذهان أحداث الخامس أكتوبر 1988 في الجزائر، والتي يسجلها البعض في نفس خانة تلك الثورات الشعبية، فقد يبدو لزاما حسب الإبراهيمي أن نشير إلى أنه خلافا للكثير من رؤساء العرب الذين تمسكوا بالحكم إلى غاية المصير المحتوم، فإن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد فضل ترك الكرسي، ومغادرة منصبه معززا مكرما، بل أكثر من ذلك، فقد جاء قراره الشجاع بالتنحي عن الحكم مسايرا لكافة القرارات الجريئة التي اتخذها في إطار الاستجابة لتطلعات الجزائريين الذين وجدوا متنفسا في إعلانه عن دستور 1989 الذي أرسى دعائم التعددية الحزبية والإعلامية والثقافية في البلاد. وقد تكون الثقة الكبيرة التي وضعها الشعب الجزائري في هذا الرجل والتي تجلت في إعادة انتخابه رئيسا للجمهورية في 1988، بالرغم من الظروف العصيبة التي مرت بها البلاد، أفضل رد على الذين لا زالوا يشككون في محبة الجزائريين لهذا الرئيس الفذ، الذي يحفظ له الخارج قبل الداخل مواقفه الشجاعة إزاء القضايا الحساسة في العالم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، ومن ذلك إسهامه الفعال في التوصل إلى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الطائفية في لبنان، وموقفه الرافض للتدخل الامريكي في العراق إبان حرب الخليج الأولى 1991، حيث كان من القادة العرب القلائل الذين اعترضوا على هذه الحرب. أما الاستفسار عن شخصية الرجل وطبعه وصفاته، فقد أجاب عنه حضوره الدائم في المواسم والأعياد الوطنية، عندما كان يلبي دعوة الرئيس بوتفليقة للمشاركة فيها، فيستجيب ويحضر وتحضر معه طيبته ولطفه وتواضعه الدائم.