لعبت الأسرة الجزائرية خلال سنوات الثورة التحريرية، دورا كبيرا في دعم صفوف الثوار سواء بالدفع بأولادها إلى الصفوف الأولى لتحرير بلدهم، وهذه أسمى أنواع التضحيات، أو بتوعية أفراد المجتمع الذي تنتمي إليه بقيمة الحرية، وبأهمية التزام الصمت عندما يتعلق الأمر بمختلف العمليات الفدائية ضد المستعمر الفرنسي، ولعل هذا ما جعل ثورة نوفمبر تنجح على كل الأصعدة، خاصة منها اللوجستية حينما اتحد كامل الشعب الجزائري لإنجاح ثورته، وبالتالي تحقيق الاستقلال لبلده، وهو ما اختصرته مقولة الشهيد البطل العربي بن مهيدي :«ارموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”. كيف احتضن الشعب الجزائري ثورته؟ كان السؤال الذي طرحته “المساء” على عدد من المجاهدين، فجاءت الأجوبة مرة أخرى لتؤكد على أن ثورة نوفمبر 1954 عظيمة بالفعل عظمة الرجال الذين خططوا لها، وعظيمة بفضل كل الذين عملوا على إنجاحها من قريب أو بعيد، وانخرطت في هذا المسار كل شرائح المجتمع الجزائري، حتى النساء ممن أوكلت إلى بعضهن مهمة تحضير الأكل والتمريض والعناية بالجرحى، أو غسل ثياب المجاهدين، ولكبار السن ممن كانوا يرضون تحمل أنواع التعذيب عوض الوشاية بمجاهد أو مسبل أو فدائي، وحتى الأطفال ممن كانت تسند لبعضهم مهمة الاتصال بأعضاء الثورة عن طريق المراسلة، ومهام أخرى كثيرة، كما أكد كل من المجاهد مسلم رابح والمجاهد بوحفص صالح من الولاية التاريخية الأولى في حديث مع “المساء”، وأشار المتحدثان في مجمل حديثهما إلى أن الأسرة الجزائرية لم تتوان في تحمل المسؤولية تجاه الثورة، فهذه الأخيرة لم تكن لتنجح لو لم يؤمن كل أفراد الشعب الجزائري بمشروعية الحرب ضد المستعمر ونيل الحرية والاستقلال، لذا أخذ نشاط العديد من أفراد هذا الشعب خلال الثورة عدة أشكال وأنماط، من أهمها جمع الأموال والتمريض والطبخ. “لقد حاول الاستعمار التقليل من قيمة الثورة وضرب التماسك الاجتماعي المبني عليها في الصميم، إلا أنه لم ينجح في ذلك”، يقول المجاهد بوحفص صالح المدعو؛ “الرباحي” أثناء حرب التحرير. من جهتها، تقول السيدة حبيبة تواتي، عقيلة المجاهد علي شباب -رحمه الله- أن المسؤوليات التي ألقيت على كاهل المرأة الجزائرية خلال الثورة التحريرية كانت كبيرة، مما جعلها تلعب أدوارا أساسية كانت الثورة بأمس الحاجة إليها، رغم الصعاب التي كانت تتربص بها لكونها امرأة. ومن تلك الأدوار “كنا نحن النساء نهتم بتنظيف لباس المجاهدين، كنا نقوم بغسل ما يصل إلى 30 أو 40 بدلة مرة واحدة، عندما ننكب عليها لا نستريح إلا بعد الانتهاء من تنظيفها، وكان ذلك سرا في مزرعة والدي على الحدود التونسية، وكنا أيضا نخبز “الكسرة” ونحضر الأكل للمسبلين، وكانت كل القرية تقوم على إمدادنا بالدقيق للخبز وتحضير الكسكسي. كنا كذلك نخيط العلم الجزائري.. كانت كل الأسر تساعد بعضها من أجل خدمة الثورة، ومازلت أتذكر كيف كان والدي يقوم بجمع الأموال من سكان القرية، والدواء أيضا، وإرسالها للمجاهدين”. وما كنا هاهنا لنغفل الحديث إلى مختص في علم الاجتماع ليحدثنا عن الجانب الاجتماعي لثورة التحرير، وهو الجانب غير المسلح للثورة، ولكنه لا يقل أهمية عنه، كون الشعب الجزائري قد ساند ثورته بكل ما توفر لديه وما استطاع توفيره، سواء من مال أو دواء أو حتى “كسرة” ساخنة تشبع بطون الفدائيين. بن مهيدي اختار كلماته لأنه كان يؤمن بشعبه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نغفل الأبطال الذين صنعوا ثورة نوفمبر، والذين كان لهم الفضل في تحرير الجزائر، كما لا يمكن نسيان المحطات التاريخية الكثيرة، ولا نسيان أو إغفال أكبر إنجاز كذلك وهو احتضان الشعب للثورة المباركة والتفافه حولها، والسؤال الذي نطرحه هاهنا: ما الذي جعل الشعب الجزائري يحتضن الثورة المباركة ويلتف حولها؟ حول هذه الإشكالية، كان ل«المساء” لقاء بجامعة الجزائر 2 مع المختص في علم الاجتماع، عيوش مهدي الذي اعتبر أن روح الإسلام وحب الشعب الجزائري لوطنه كانا بمثابة المحرك الأساسي والروح المغذية للمقاومات والثورات الشعبية التي عرفتها الجزائر منذ دخول المستعمر الفرنسي في 1830. و أشار في معرض حديثه إلى أن “نضج الأمة الجزائرية ووعيها الوطني بعدالة قضيتها في افتكاك حريتها، لعب هو الآخر دورا لا يستهان به في تحقيق هذا المسعى وتتويجه بالاستقلال”. أما كيف احتضن الشارع الجزائري ثورة نوفمبر تماما مثلما نادى إليه البطل العربي بن مهيدي، فقال عيوش مهدي إن المتمعن في تاريخ الجزائر ابتداء من دخول فرنسا سنة 1830، وانطلاق المقاومات الشعبية إلى ثورة نوفمبر سنة 1954، يجد أن تجذر الإسلام في أعماق الشعب الجزائري جعل الأسر تلتحم حول بعضها البعض، فكانت نداءات “الله أكبر” التي تخرج من قلوب المجاهدين قبل أفواههم، وتنطق بها ألسنتهم، المغناطيس يجذب أفراد الشعب إلى ثورتهم، فرعى الشعب الثورة وشد أزرها، ودفع الآباء والأمهات بفلذات أكبادهم إلى معارك الوغى فكانت البطولات والتضحيات، وكان الاستشهاد في سبيل الله والوطن”. وأضاف المتحدث أن “المستعمر الفرنسي فشل في فك أسرار الروابط الاجتماعية التي كانت تشكل تكتل المجتمع الجزائري، بحيث تشير العديد من المصادر إلى أن كبار الجنرالات والقادة العسكريين الفرنسيين كانوا قد جندوا ضمن صفوفهم مختصين في علمي الاجتماع والأعراق حتى يتمكنوا من تفكيك شيفرة الروابط الأساسية التي تحكم المجتمع الجزائري، وعلى ضوئه يتمكن من تسطير السياسة الفاعلة لتحطيم تلك الروابط، وبالتالي كسر المجتمع وإضعاف شوكة المقاومات، وهو ما لم يتوصل إليه لأن الإيمان بالله والقضية كان الرابط الأول الذي التحم حوله الشعب الجزائري، ثم جاءت الثورة التي استمدت هي الأخرى قوتها من هذا الدين الذي يحث على الأخلاق والترابط وعلى رفع الظلم”. وأضاف المختص قائلا: “إن الأسرة الجزائرية بترابط أفرادها هي من صنعت المُسبلين والفدائيين والمجاهدين، وهي أيضا من كانت تستقبل بعضا من هؤلاء بهذه المنطقة أو تلك للمبيت عندها، وهي لذلك كانت تجهز منازلها بمخابئ سرية لإخفاء المجاهدين من دورات التفتيش للجنود الفرنسيين. كما أن نساء العائلات الجزائرية كانت تتفنن في مد يد العون للثورة عن طريق تحضير الأكل للثوار وغسل ثيابهم.”وعن المقولة الشهيرة للبطل الفذ العربي بن مهيدي؛ “ألقوا بالثورة للشارع يحتضنها الشعب”، علق عيوش مهدي يقول؛ إن هذا البطل اختار ألفاظه بدقة، فالمعروف أن خاصية الاحتضان في الأسرة يعود للأم التي تحتضن أطفالها وإلى الأسرة، عموما، التي تحتضن أفرادها من كل طارئ، ولذلك فإن هذا البطل الذي كان يعرف تماما خصوصية شعبه، وهو ما حصل فعلا لما تجندت كل شرائح المجتمع الجزائري في حركة تحرير وطنهم، ولنا في السنيما الجزائرية ما يثبت ذلك من خلال أفلام كثيرة تروي أحداث المقاومات والثورات، كيف يوصل الأطفال رسائل الثوار من منطقة لأخرى، وكيف تحتضن الأسر الفدائيين وتخبئهم بإحدى زوايا المنزل، وإذا سألهم الجنود الفرنسيون ينكرون الوقائع كبيرا وصغيرا، ولذلك يمكننا القول إن كل الشعب الجزائري إبان ثورة نوفمبر شارك ولو بشكل غير مباشر في صنع استقلاله واستحق بعدها فرحة الاستقلال التي بيقت عالقة في الأذهان”.