يثار اليوم جدلا كبيرا في جميع أنحاء العالم, خاصة منه العربي الإسلامي حول دور المرأة في المجتمع, فتعددت الرؤى واختلفت بين مغالي يرى أن دورها لا يجب أن يتعدى حدود البيت وبين مغالي آخر يرى أن إقحامها في جميع مناحي الحياة الاقتصادية السياسية والاجتماعية ضرورة لا بد منها للنهوض بالمجتمع وتلبية حاجاته إلا أن للتاريخ قول آخر في هذا المجال, والتاريخ كما نعلم هو حكم لا يتعاطف مع أحد فبالإضافة إلى أنه سجل تجارب الشعوب, فهو أيضا من يصنفها ويقيمها فمن أحسن التصرف سجلت حسناته له, ومن أخطأ عاقبه إلى الأبد ولو تعاقبت الأجيال. والمرأة الجزائرية ممن حكم لهم التاريخ وليس عليهم, فقد نقشت أسماء الكثيرات منهن في سجل التاريخ بأحرف من ذهب, خاصة إبان الثورة التحريرية. فثورة نوفمبر 1954 أثرت في الجوانب الاجتماعية للشعب الجزائري, إذ أزالت الفرق الموجود بين الرجل والمرأة اتجاه الواجب المقدس المتمثل في تحرير الوطن, فوجدت هذه المرأة متنفسا في ثورة نوفمبر, حيث أطلقت العنان للقوى الكامنة فيها, فالتفت حول جبهة وجيش التحرير الوطني, وقامت بأصعب المسؤوليات وأخطر العمليات...إذ يذكر أحد معاصري تلك الفترة في مذكراته: الفتاة والمرأة عموما في الجزائر قدمت الزاد والوقود للثورة, في صورة مهج وأرواح وتضحيات أخرى... إذ لم يتورع المستعمرون عن هتك الأعراض وسبي وتعذيب.. و شاء الله تعالى أن تبرز جميلة بوحيرد رمزا صارخا لما واجهته المرأة الجزائرية في الجزائر من بشاعات التعذيب بالأجهزة الكهربائية وغيرها من ألوان وأساليب... تناولتها وسائل الإعلام في الغرب نفسه. كما أن التضحية بفلذات الأكباد وبشريك الحياة وبالممتلكات هي أيضا شارات بطولة وفداء في رصيد المرأة العربية في الجزائر. وهذا ما أشاد به مؤتمر الصومام (20 أوت 1956) في مقررته وإننا لنحًي بإعجاب وتقدير ذلك المثل الباهر الذي تضربه في الشجاعة الثورية الفتيات والنساء الزوجات والأمهات, ذلك المثل الذي تضربه جميع أخواتنا المجاهدات اللائي يشاركن بنشاط كبير- وبالسلاح أحيانا- في الكفاح المقدس في سبيل تحرير الوطن ولا يخفى أن الجزائريات قد ساهمن مساهمة إيجابية فعالة في الثورات الكثيرة التي توالت وتجددت في بلاد الجزائر منذ سنة 1830 ضد الاحتلال الفرنسي... والمرأة الجزائرية اليوم موقنة أن الثورة الحاضرة ستنتهي لا محالة بالحصول على الاستقلال. كما يؤكد على أنها مازالت توكل لها مهام جبارة في العمل الثوري إلى جانب الرجل, ونقف على ذلك من خلال توصيات مؤتمر الصومام, والذي جاء فيه بخصوص الحركة النسائية ما يلي [الحركة النسائية ومهمتها إذكاء روح الحماس في صفوف الجيش وأعمال الاتصال والمخابرات وتهيئة الملاجئ وإسعاف عائلات الشهداء والمعتقلين...] إن تطور الأحداث السياسية في بداية الخمسينيات والتي توجت باندلاع الثورة المظفرة دفع المرأة الجزائرية إلى أن ترفض البقاء معزولة عما يجري من أحداث بل وأصرت على المشاركة فيها بشكل واضح ومباشر وأن تسجل وجودها عمليا في ثورة نوفمبر 1954م فكان عليها أن تضطلع بواجبها في العمل الثوري بجانب الرجل, وأن تتحمل كأم وزوجة وأخت القسط الأكبر من مشاق وأتعاب وتضحيات سواء في الحفاظ على تماسك الأسرة والقيام بشؤون البيت, أو القيام برعاية ضحايا الحرب وإنجاز الأعمال الثورية. وانطلاقا من إيمانها الراسخ بدورها الفعال في كل الجبهات, أدركت المرأة مسؤوليتها تجاه دينها ووطنها, فنهضت وقامت بجانب الرجل داخل صفوف الثورة المسلحة بإيمان و إرادة صلبة تعزز صفوف المجاهدين و المجاهدات و تكافح في الريف و المدينة... فالثورة التحريرية قد تجاوزت النظرة المطالبية لتحرير المرأة و الرجل ككل, بل أعطت المرأة دورا و وظيفة فعالة. فكلفت بأعمال تتجاوز طبيعتها البيولوجية, فقد مارست أعمالا كثيرة في صفوف جيش التحرير بعدما تكون قد تدربت على استعمال السلاح, و على علاج المرضى و الجرحى, و تهتم أيضا بشؤون الإدارة بمساعدة كاتب القيادة, و تشتغل بالكتابة على الآلة الراقنة لإعداد المنشورات و الأوراق و الدعايات, و إيصال الاشتراكات أو كتابة التقارير و القوانين العسكرية, و تلقي المجاهدة المثقفة دروسا للتوعية السياسية. أما الفدائية في المدن فإنها تنفذ عملياتها وسط السكان بدون أن ترتدي الزى العسكري, و الملاحظ هنا أن المكلفات بهذه العمليات كن يتصفن بالشجاعة الفائقة و طول النفس و الصبر المنقطع النظير, حيث تضعن القنابل في المقاهي و مراكز تجمع العدو في المدن, و في وضح النهار. و يلقى القبض على هذا النوع من النساء المجاهدات, و يبذل المستعمر قصارى جهده لتشويه أجسادهن و انتهاك أعراضهن, من أجل الحصول على معلومات منهن, و بعد أن ييأس في ذلك يحكم على بعضهن بالإعدام و البعض الآخر بالسجن. في حين تقوم المرأة المسبلة بأعمال عديدة كالاتصال بين الشعب و الفدائيين من جهة وقيادات الثورة من جهة ثانية, كما تعمل على حراسة المجاهدين و تأمين ملاذهم و نقاط عبورهم, و يظهر هذا الدور بفعالية قصوى عندما لجأت فرنسا إلى خطة تجميع السكان في المحتشدات بهدف عزل الثورة عن الشعب, حيث تصدت قيادة الثورة لذلك بتجنيد النساء لهذه المهمة, فاستطاعت أن تربط الاتصال بجيش التحرير, إذ تذكر المجاهدة: مزياني مداني لويزة: ... و منهن من تعمل في جهاز الاتصال بين العاصمة و الجبل بين المجاهدين و أهلهم أو أصحابهم في النضال فكانت الرسائل تروح و تجيء في سرية و بطرق غير مشكوكة إلا نادرا كما وقع لنا ببيتنا و لي على الخصوص و تواصل المجاهدة سرد الأحداث التي تدور حول عملية مداهمة لبيتهم, بعد إلقاء القبض على إحدى المسبلات, التي جاءتهم برسائل من الجبل و أخذت منهم رسائل أخرى إلى الجبل. كما أن النساء اللواتي يستخدمهن الجيش الفرنسي لغسل ملابس الجنود كانت تستولي على كثير من الملابس, و ترسل بها لجيش التحرير, و تهرب المئونة و الذخيرة باستمرار, إضافة إلى تدبير هروب الشبان و انضمامهم لصفوف جيش التحرير. كما ساهمت بكل جوارحها و مشاعرها, خاصة عندما تودع زوجها و فلذات أكبادها إلى ساحة الفداء من أجل القضية الوطنية المقدسة, كما تستقبلهم بالزغاريد و الدموع عند استشهادهم, و في كل ذلك نجدها تتحلى بالجلد و الشجاعة, بل تتحمل ما ينجر عنه من عمليات الانتقام عندما يعلم الاستعمار بأن هذا البيت قد خرج منه مجاهدون, و هذه زوجة أو بنت أو أخت أو أم... فسوف يصب عليها كل أنواع الانتقام من تعذيب و استنطاق و نيل من الشرف. و تذكر المجاهدة مزياني مداني لويزة في هذا الصدد: ... و ها أنا ذي أعيش هذه التجربة في بيتنا هذه الأيام في شهر جوان 1958 و بالذات في 15 منه و نحن نستعد لوداع أخي عمر وهو الأخ الرابع الذي يغادر البيت إلى الجبل.. إلى ساحة الفداء.. بعد خروجه من السجن منذ أسبوع في 08/06/1958 و بعد أن قضى فيه مدة عامين كاملين, فيا لها من ليلة قضيناها نعد فيها الساعات, و صباح نحصي فيه اللحظات... و قد انتهت و وقفنا نودع آخر الإخوة إلى ميدان القتال ضد المستعمر... كانت لحظات حاسمة... تطغى فيها العاطفة... و تنتصر فيها التضحية, و الإيمان بالواجب الوطني... كيف لا؟ !! و الأم صابرة صامدة.. أم أربعة مجاهدين صناديد... تتحمل هذا الموقف بشجاعة بالغة... و تتغلب على مشاعر الأمومة بجلد و تحدي... و لم تدمع عيناها إلا حينما قبلها هذا الابن مودعا و هو يقول كوني صبورة يا أماه...]) و من ضمن الإصدارات الأدبية التي عالجت هذا الموضوع في وقته أي أثناء الثورة التحريرية, قصة لأحد الجزائريين يعبر من خلالها عن مساهمة المرأة الجزائرية في حرب التحرير, خاصة لما انتقلت الثورة من الجبال إلى المدن, أين ظهر الدور الكبير للفدائيين و المسبلين, و الذين كان من بينهم المرأة الجزائرية. حيث يبدأ قصته بتقديم الشكر و الثناء لهؤلاء النساء قائلا: [ إلى تلك التي وقفت إلى جانب الرجل لتدافع عن حياض الوطن, إلى جميلة و أمثال جميلة بوحيرد من النساء العربيات, أهدي هذه القصة.]. ثم ينتقل إلى سرد وقائع القصة التي تدور حول شابة جزائرية في العشرين, فضلت الدخول إلى صفوف جيش التحرير بدل مواصلة الدراسة, و ذلك بعد الظروف المضطربة التي أصبحت تعيشها مدن الجزائر نتيجة التصعيد الثوري فيذكر: [... و لكن البارود و رائحة الحريق قد انتشرت اليوم في كل مكان. يستطيع السواح الأجانب إذا أتيح لهم أن يزوروا وطني في هذه الظروف, أن يتحدثوا عن الجثث التي تتساقط في الشوارع من غير أن تجد من يدفنها... و يستطيعوا أن يشاهدوا هجوم المظليين على حينا, حي القصبة, بأمر الجنرال "ماسو". و رغم هذه الظروف, فينبغي لي أن أفكر في أمر مستقبلي كسائر اللواتي بلغن سن العشرين... كيف يمكن لي أن أتقدم إلى فحص الجامعة في هذه الظروف المضطربة؟ كيف يمكن التفكير في مواصلة الدراسة؟ و أنا لا أمن على نفسي أن يعتدي علي المظليون في طريقي إلى الجامعة؟ كيف يلذ لي أن أجلس على كرسي الدراسة, و أنا أعلم أن بعض زميلاتي, و لا أتحدث عن الزملاء, قد هجرن مقاعد الدراسة, و التحقن بجيش التحرير؟]. ثم ينتقل لاستعراض طرق أخرى لنضال الجزائريات في الجامعات و المدارس, إذ لبين نداء الثورة بهجر مقاعد الدراسة, و القيام بالمظاهرات و المسيرات دعما للثورة في المدن فيقول:[... فقد قرر الاتحاد العام للطلبة الجزائريين الإضراب عن الدراسة إلى أجل غير مسمى... و قرأنا بيان الاتحاد العام, و سرى الحماس بيننا, و في مدى ربع ساعة وصل الخبر إلى كل مكان, و كانت المناشير تتناقلها أيدي زميلاتنا الفرنسيات في شيء من الدهشة و الاستغراب و غير قليل من الوجوم, أما نحن فقد كنا ندخل غرف الإدارة, و قاعات المحاضرات, و كنا نلصق البيان على الجدران. و رن الجرس مؤذنا ببداية الدرس. تزاحم الطلبة الفرنسيون على القاعات. أما نحن فقد سلكنا طريقا آخر, فخرجنا في مظاهرة عبر الشوارع, نعبر ذاك الصباح عن مشاعرنا بالهتافات و الأناشيد.]) وفي سنة 1958م نجد الصحافة العربية قد غصت بالقصائد التي تخص موضوع رموز الثورة الجزائرية, وكان محور هذه الموضوعات حادثة إلقاء القبض على المجاهدة " جميلة بوحيرد" حيث سال بشأنها حبرا كثيرا, وقيل فيها أكثر من ثماني قصائد من مختلف ربوع الوطن العربي, وضع لبعضها تقديما مختصرا مؤثرا