شهر ماي الشهر الذي ارتكبت فيه فرنسا أبشع المجازر وكافأت الجزائريين على تضحياتهم الكبيرة من اجل تحريرها من النازية، فكان الجزاء وأي جزاء، 49 ألف قتيل ناهيك عن مئات الآلاف الذين قتلوا في آتون الحرب العالمية الثانية وليس هناك من بيت أو عائلة جزائرية إلا وأخذت فرنسا خير أبنائها لتذكي بهم الحرب، وفي الوقت الذي تضن فيه فرنسا على الجزائريين بالاعتذار وتدعي أنها رسول حضارة واحتلالها سرب حمام وغصن زيتون يقف الجزائريون في وجه هذا الادعاء ويدلون بشهادتهم لأنهم كانوا شهود إثبات على الجريمة وكانوا من ضحاياها ومن هؤلاء المناضل مزغيش لحريزي. سبقت دموعه كلماته، ذكرني حينها بالشاعر الفارس الحمداني حين قال : »وأذللت دمعا من خلائقه الكبر« أو قوله »ولكنّ دمعي في الحوادث غالي« شيخ تجاوز ال86 سنة من عمره كان بالنسبة لزبانية فرنسا ورشة لاختبار مبتكراتهم في التعذيب والاستنطاق. الزجاجة المكسرة، حوض الماء، السلّوم، الصعق الكهربائي، وهو يتذكر كانت دموعه التي لم تنفلت تعبر عن عمق ذلك الالم ونزيف تلك الذكريات. مناضل اقتحم صفوف النضال وهو ابن ال14 ربيعا. استعادة الذكريات وترتيب الآلام مهمة صعبة صعوبة المرحلة ذاتها، رجل ماتزال الشظايا منغرسة في لحمه، مازال صوته يتوجع بالكلمات، كيف لا تختلط في ذهنه الأوجاع وفوضى الألم التي تركها الاستعمار منقوشة على جسمه، الاستعمار الذي استكبرت كلمات الاعتذار في قاموسه الاجرامي، بينما تنوعت تمويهاته بالمخادعة والدهاء ومحاولة تغيير مجرى الحقيقة التي ماتزال ناطقة فوق أشلاء الجزائريين وأجسامهم. تبدأ الحكاية من سنة 1925 حين فتح المناضل مزغيش لحريزي عينيه بمدينة (سور الغزلان) (أومال) وتغادر أسرته هذه المدينة العريقة الى الجزائر العاصمة وهو لم يتجاوز عامه الاول، استقرت العائلة في الحي الشعبي العربي حينها »بلكور« (محمد بلوزداد وسيدي محمد حاليا) في هذا الحي العربي العتيق نشأ السيد لحريزي وعندما كان عمره سنة عرفت الحياة السياسية الجزائرية ميلاد حزب نجم شمال افريقيا سنة 1926 حيث بدأت الأحاسيس والمشاعر الوطنية تنضج وتتسرب عبر العمال القادمين من فرنسا الى الجزائر، وبدأ المواطن الجزائري يترصد كل ما يتحرك هناك من اجل نصرة الشمال الافريقي، الحركات الوطنية لشمال افريقيا والتي نشأت من خلالها الاحزاب الوطنية للأقطار الثلاثة، حزب الشعب الجزائري في منتصف الثلاثينيات، حزب الاستقلال المغربي بقيادة الشيخ علال الفاسي، والحزب الدستوري التونسي، ونظرا لاختلاف الاوضاع الاستعمارية بكل قطر على حدة، كان القطر الجزائري يختلف من وجهة النظر الفرنسية عن كل من تونس والمغرب باعتباره جزءا لا يتجزأ من فرنسا كما تزعم بذلك ، هي المهمة بالنسبة للجزائريين كانت صعبة وأكثرها خطورة وكلمة الاستقلال ستخلف ردة فعل فرنسية قاسية، الشيخ لحريزي الذي حفظ شوارع الجزائر شارعا، شارعا، وزقاقا، زقاقا، كان يعاني الميز العنصري والفرق الشاسع بين الابناء الأصليين للجزائر، وبين أبناء الوافدين الذين تم زرعهم في الكيان الجزائري كما الشوك من مختلف الشرائح الاوروبية، وحتى اليهود الذين كانوا يتمتعون بامتيازات كانت بالنسبة للجزائريين حلما لا يمكن تحقيقه إلا بالإستقلال. السيد لحريزي التحق كبقية ابناء العرب بالمدارس القرآنية وحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم على يد الشيخ الحمامي بسيدي محمد وفي المدارس الاهلية تحصل على مستوى النهائي (تارمينال) كان عمره حينما بدأ ممارسة النضال 14 سنة، ربما تزامن هذا الاهتمام بالسياسة حين مقْدم السيد مصالي الحاج الى الجزائر بعد المؤتمر الإسلامي الذي انعقد بالجزائر العاصمة والذي تمخض عن ارسال وفد الى فرنسا بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس لعرض بعض المطالب على الحكومة الفرنسية الإشتراكية التي آنس فيها المجتمعون في المؤتمر الاسلامي خيرا إلا أنهم عادوا من فرنسا بخفّ حنين وهناك التقى الشيخ باديس بزعيم حزب الاستقلال مصالي الحاج وتمت دعوة الأخير للقدوم الى الجزائر، ولبى مصالي الدعوة وجاء الجزائر وألقى خطابه الشهير بالملعب البلدي »ميني سيبال 20 أوت حاليا.