ألقى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، أمس الإثنين، خطابا بمناسبة انعقاد الجلسات الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي.. فيما يلي نصه الكامل: " بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين السيدات الفضليات السادة الأفاضل لا أكتمكم أني أشعر باعتزاز وأنا أحضر معكم افتتاح هذه الجلسات الوطنية حول التعليم العالي والبحث العلمي وأشهد هذه الوقفة الجادة للجامعة الجزائرية لتقيم بموضوعية وحكمة ما تم إنجازه وتنطلق بعزيمة لمواصلة رسالتها الإنسانية والإنمائية بل الحضارية وأداء دورها الريادي في تكوين النخب وإبراز الكفاءات وفي التنوير الفكري والإشعاع الثقافي في عصر يتميز بالتغير السريع وبتدافع المخرجات المعرفية والانتشار الواسع لما يرتبط بها من مهارات. إن العصر الذي نعيشه اليوم هو بلا منازع عصر المعرفة ومن لا يملك المعرفة والتقانة يعد خارج العصر إنه عصر يكرّس الثراء في جميع المجالات وتتأكد فيه مركزية الموارد البشرية في كل تحول يجعل المجتمع قادرا على اكتساب العلوم والمعارف وابتكار التقنيات المادية وتصنيعها وإقامة النظم الاجتماعية المناسبة وأعمالها لتحقيق التنمية. التحدي الذي ينبغي رفعه اليوم يتمثل في القدرة على ترشيد إسهامات الموارد البشرية بوصفها مكسبا استراتيجيا اعتمادا على كفاءة رأس المال البشري وتكوينه وتنظيمه. التربية لم تعد كما كان شائعا مجرد خدمة تقدم للمواطنين بل أصبحت مرادفة للاستثمار على المدى الطويل ولذلك كانت المنظومة الجامعية دائما محط اهتمام خاص ورعاية متميزة من قبل الدولة ودفعتنا المقاربة التي اعتمدناها لمجتمع المعرفة في هذا المقام إلى العناية بإعداد العنصر البشري الذي يعتبر كل تطور وتقدم بدونه ضربا من الخيال.
السيدات الفضليات السادة الأفاضل إن الوعي بأهمية القدرات البشرية المؤهلة في قيادة التغيير والتحول الاجتماعي وبضرورة إدماج المقاربة التربوية ضمن منظور نسقي لعملية التحديث والتطوير التي شرعنا فيها في إطار برنامج التجدد الوطني هو الذي جعلنا نبادر سنة 2000 بتنصيب اللجنة الوطنية للإصلاح بغية إجراء تقويم شامل ومنسجم للمنظومة التربوية بمختلف أطوارها ومراحلها واقتراح المعالم المرجعية الكبرى التي تمكن القطاعات ذات العلاقة من الشروع في إصلاحها بالشكل الذي يستجيب لطموحات المجتمع المشروعة في الحصول على تعليم نوعي كفيل بتمكين الخريجين والمجازين من الامتلاك الجيد للمعارف والمهارات والتحكم في التكنولوجيات التي صار تطويعها وتوطينها وإنتاجها مقياسا لقدرة المجتمع على التجديد والابتكار. ولما كانت الجامعة الجسم الحي الذي يستدعي باستمرار تجديد رؤيته ورسم أهدافه وإعادة ضبط أولوياته فإنها أصبحت بفضل ذلك مرآة ساطعة في المجتمع وموضوع حديث وتقويم متواصل فهي لم تعد ذلك الفضاء النخبوي الحاضن لمجموعة من الأفراد بل أضحت محط اهتمام المجتمع ومعقد آمال الأمة في التقدم والتنمية ولعل ذلك ما يجعلها مدعوة للعمل أكثر من أي وقت مضى على إرساء ثقافة التقويم وضمان الجودة وأن تراجع مسيرتها بين الحين والحين.
السيدات الفضليات السادة الأفاضل إن التعليم العالي يتمتع بقدرة هيئاته على الاستجابة لمتطلبات المجتمع ورغباته ولا شك في أن ذلك لن ينجز إلا من خلال عمل دائب ومتواصل لملاءمة عروض التكوين وبرامج البحث لاحتياجات المحيط الاقتصادي والاجتماعي. فإذا كانت الجامعة بهذا المفهوم أحد العوامل المؤثرة في حركية التنمية الاجتماعية، فإنها فوق ذلك فضاء واسع للسمو والارتقاء في جميع المجالات الأخرى وفي مقدمتها ميادين العلوم والتكنولوجيا وحقول الزراعة والهندسة والاقتصاد وفروع الإعلام الآلي والاتصالات والإدارة إلى غير ذلك من المجالات المعروفة بتأثيرها القوي على النمو الاقتصادي في مراحله المختلفة. فمثل هذه الانشغالات وما ينجم عنها من تحديات تفرض على منظومة التعليم العالي أن تدخل إصلاحات وتجديدات وأن تسعى إلى التوفيق في ذلك ما أمكن بين ما يتوقعه المجتمع وعالم الاقتصاد وبين قدرة التعليم العالي على مفصلة تلك التوقعات وتحويلها إلى غايات وأهداف وبرامج. إن هذه الرهانات والتحديات هي التي دفعت بجل البلدان إلى الشروع في تشخيص جاد لمواطن القوة والضعف في أنظمة التعليم العالي لديها. ذلك ما فعلته المجموعة الأوروبية من خلال استراتيجيتها القائمة على تحقيق ما تسميه باقتصاد المعرفة الأكثر تنافسية والأبلغ حيوية في العالم وغني عن البيان أن هذه الاستراتيجية ترمي إلى تعزيز إسهام المجموعة في حركية العلوم والمعارف وضمان حراك الكفاءات في الفضاء الأوروبي وإضفاء مقروئية أحسن على الشهادات الممنوحة وتسهيل الاعتراف بها. وفي هذا السياق، فإن بلادنا شعورا منها بالطابع الحيوي لمؤسسة الجامعة ووعيا بدورها الاستراتيجي في التكوين والبحث وإنطلاقا من أهمية الاستجابة الملحة للتغيرات العميقة التي حدثت على الصعيدين الوطني والدولي في مجال تطوير المعارف والتحكم في التقانات انخرطت في هذه السيرورة التي أعطت لإصلاح أنظمة التعليم العالي بعدا عالميا. من الواضح أن هذا الإنخراط لم يكن مجرد تقليد كما قد يتوهم البعض، إنما هو فعل راشد وإرادي أملته عوامل عدة أهمها كسب رهان النوعية في عصر أصبحت التنافسية فيه سائدة في كل المجالات وأضحى ضمان الجودة في التعليم العالي أكثر من أي وقت مضى حقا من حقوق الطالب وشرطا جوهريا بل متطلبا أساسا يضمن له الحصول على الكفاءة المعرفية والمهارة التي تمنحه قدرة تنافسية باتت هي الميزة التفاضلية الرئيسة في ظل عولمة الاقتصاد والأسواق والمبادلات.
السيدات الفضليات السادة الأفاضل كان لا بد على الجامعة الجزائرية أن تتجه هذه الوجهة المستقبلية لتضع نفسها في مساق إصلاح شامل يجعلها تتناغم مع متطلبات العصر وذلك إيمانا منها بأن نهضة الأمة تبنى على العلم، الهدف هو تكييف المنظومة الجامعية مع ما يجري في العالم المحيط بنا وجعلها تمنح تكوينا علميا نوعيا يرقى إلى ما تطمح إليه الأجيال الصاعدة وذلك عبر التأسيس لإصلاح تكاملي التصور تدريجي التنفيذ تشاركي الوجهة والمنحى إصلاح مداره تطوير المسالك التعليمية لقدرات الطالب وتحرير كل طاقات الابتكار والإبداع الكامنة في الجامعة الجزائرية. غير أن كل هذه الجهود لا تؤتي أكلها إلا إذا توفرت لها وسائل تحديث مستمر تسمح للجامعة بلعب دور المحرك في المجتمع وتجعلها مرتبطة إرتباطا محكما به، فبذلك وحده تتعاظم وظيفة البحث العلمي في كافة المستويات ويسهم الإبتكار في تطور الصناعات التي تعد عصب الإقتصاد ومحور النمو الإقتصادي والنهوض الحضاري.
السيدات الفضليات السادة الأفاضل لقد تولدت عن النمو السريع للتعليم العالي والتوسع غير المسبوق للشبكة الجامعية بعض القيود التي أثرت في العملية التعليمية وأدت إلى الحد من قدرة الجامعة على الاستجابة للنجاعة المطلوبة للتحولات التي يعرفها المجتمع وعجّلت بضرورة إخراج الجامعة الجزائرية من الوضعية التي تعيشها وذلك بمنحها الوسائل الإنسانية والبيداغوجية والعلمية والمادية والهيكلية التي تسمح لها بالاستجابة لاحتياجات المجتمع وبأن تتواءم مع التوجهات الجديدة لأنظمة التعليم العالي في العالم. إن ما ننشده من وراء الإصلاح الذي شرع في تطبيقه منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات هو فسح المجال واسعا أمام الطالب ليختار مسلك التكوين الذي يتطابق مع قدراته الذاتية ويندرج ضمن مشروعه المهني المستقبلي، كما أن هذا الإصلاح زيادة على كونه يكرّس الطابع العمومي للتعليم العالي بوصفه مرفقا عاما وخدمة عمومية ويحافظ على مبدأ ديمقراطية التعليم بتشجيع مشاركة القطاع الإقتصادي في عملية التكوين عبر إشراك أصحاب الخبرة والتجربة في التدريس في المجالات المهنية والتطبيقية فضلا عن تطوير التدريبات وكل أشكال التكوين المتناوب وبذلك يتحقق التأثير المتبادل بين منظومة التعليم العالي وبين المحيط الإقتصادي والإجتماعي. إن هذا الإصلاح يرمي أيضا إلى تقوية المهمة الثقافية للجامعة بترقية القيم العالمية كالتسامح واحترام الغير ونبذ التطرف والعنف وإشاعة روح الحوار والتفتح على الآخر وتشجيع التعاون الدولي وتنويعه وفق السُبل والأشكال التي تسمح بالحفاظ على الخصوصية الحضارية والثقافية للمجتمع وتضمن التفتح الإيجابي على متغيرات العصر.
السيدات الفضليات السادة الأفاضل إن التكوين الجديد الذي يرمي الإصلاح الى إرسائه من خلال إعتماد نظام L.M.D هو تكوين يتم تصميمه من قبل الأسرة العلمية في هذه الجامعة أو تلك ويتم بناؤه في شكل مجالات تكوين تتفرع بدورها إلى شعب وتخصصات ممثلة في مسالك تكوين نموذجية يجعل هيكلية التعليم العالي في بلادنا متساوقة مع نظيراتها في العالم ويضفي على الشهادات الوطنية التي تمنحها الجامعات الجزائرية مقروئية أفضل على الصعيدين الإقليمي والدولي. إن هذه الوقفة التقويمية لمسار إصلاح التعليم العالي باتت أمرا ضروريا لاسيما أن هذه الجلسات هي فضاء مميز يجمع الأسرة الجامعية والمتخصصين والمهنيين من مختلف قطاعات النشاط فضاء كفيل بإرساء الأسس المتينة لشراكة دائمة ومثمرة سيؤدي تفعيلها إلى توطيد الإصلاحات وإعطاء دفع حاسم لوتيرة تطبيقها لكن هذه الوقفة التقويمية ترمي قبل هذا وذاك الى تنوير الأسرة الجامعية والمجتمع بأسره بجوهر هذا الإصلاح ومقاصده الكبرى، إنطلاقا من الرهانات التي يتعين على منظومة التعليم العالي إدراكها ومن ثمة مواجهة التحديات التي تطرحها على الأصعدة التربوية والعلمية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية.
السيدات الفضليات السادة الأفاضل لا يمكن للجامعة أن تضطلع بمهمة التكوين دون الارتكاز على البحث العلمي فالمهمتان مترابطتان أشد ما يكون الترابط وتشكلان معا عماد الجامعة وجوهرها. وفي هذا السياق فإن التركيز على تعزيز البحث العلمي كإحدى الوظائف الأساسية لجميع أنساق التعليم العالي المنتجة للابتكار والإبداع ينبغي أن يكون مرتكزا رئيسيا في كل سياسة وطنية للبحث والتطوير وعلى الجامعة أن تعرف كيف توازن في مجال البحث بين الجوانب النظرية التي هي أساس كل عمل أكاديمي وبين الجوانب التطبيقية والتطويرية التي تقدم حلولا لمشكلات المجتمع في كل مناحي الحياة، إننا في حاجة ماسة إلى أبحاث في جميع التخصصات يستفيد منها المجتمع الجزائري حاضرا ومستقبلا، فنحن في حاجة إلى دراسات وأبحاث اجتماعية بالمفهوم الواسع للكلمة تتصدى على وجه الخصوص لمعالجة بعض الآفات الاجتماعية المستفحلة وتقترح حلولا لمشكلات الشباب مثلما نحن في حاجة إلى دراسات وأبحاث تقنية. وفي هذا الصدد فإنه إذا كان تنفيذ البرمجة الخماسية للفترة 19982002 قد حقق عددا من المكتسبات الهامة فإن البرمجة الخماسية الجديدة 20082012 جاءت لتكرّس البحث العلمي والتطوير التكنولوجي أولوية وطنية ولتترجم إرادة الدولة في الارتقاء بالعلم والتقانة والنهوض بهما بوصفهما عاملين حاسمين في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد.
السيدات الفضليات السادة الأفاضل ولاشك في أن تحقيق هذه المقاصد وبلوغ تلك الأهداف يتطلب تجسيد جملة من العمليات منها ما يتصل بتطوير الموارد البشرية في مجال البحث وتجنيدها وحفزها ولعل صدور القوانين الأساسية الخاصة بالأستاذ الباحث والأستاذ الباحث الاستشفائي الجامعي والباحث الدائم هي شواهد دالة على ما توليه السلطات العمومية من رعاية لهذه الفئة حتى وإن شكلت تلك القوانين محطة أولى ستتلوها بإذن اللّه محطات أخرى على صعيد رد الاعتبار إلى الأساتذة الباحثين وإعطائهم المكانة الاجتماعية المستحقة بوصفهم جزءا أصيلا من النخبة الوطنية ومنها ما هو مرتبط بدعم التنمية التكنولوجية والهندسية من خلال إحكام التواصل بين الجامعات ومراكز البحث والقطاع الاقتصادي ووضع تدابير تشجيعية لإيداع براءات الاختراع وإنجاز الأرضيات التكنولوجية والأقطاب التقنية ودعم القدرات الوطنية التقنية في مجال الدراسة والخبرة. وقد سبق لي أن أكدت في أكثر من مناسبة بأن البلاد ينبغي أن تتجهز بنظام وطني حقيقي للابتكار يكفل التواصل بين مراكز البحث ومخابره من جهة والمؤسسات الاقتصادية من جهة أخرى ويضمن تحويل منتجات البحث إلى استثمارات ابتكارية. إن وضع الآليات المناسبة للدعم وتشجيع الابتكار والابداع وإرساء سياسة حقيقية لتثمين نتائج البحث العلمي والتطوير التكنولوجي ينبغي أن تحظى بالأولوية في المرحلة القادمة مثلها مثل التعجيل بإقامة نظام وطني للإعلام العلمي والتقني يعتمد على قواعد بيانات عصرية واستراتيجية جريئة في مجال الطبع والنشر العلمي المتخصص. تلكم بعض الأفكار والخواطر التي أحببت أن أؤكدها وبعض التوجيهات التي حرصت على وضعها نصب أعين القائمين على قطاع التعليم العالي والبحث العلمي حتى تتبلور الرؤى وترتسم الآفاق ويتناغم الجهد المبذول مع النتائج المحصلة بما يعزز ثقتنا في المستقبل. هذا وأعلن رسميا عن افتتاح فعاليات الجلسات الوطنية حول التعليم العالي والبحث العلمي.