نظّم المهرجان الدولي السادس للأدب وكتاب الشباب أول أمس، ضمن برنامجه الأدبي، ندوة بعنوان “مقاومة الحرب بالنص”، تناولت أسماء ناشرين فرنسيين، وقفوا في وجه الاستعمار وخاضوا مع الشعب الجزائري محنته ودفعوا ثمنا باهظا لالتزامهم، لكن مبادئهم هي التي انتصرت وبقيت حية في وجدان فرنسا الحرة. نشّط الندوة نيلس أندرسون مؤسس دار النشر “لاسيتي إديتور” في لوزان خلال حرب الجزائر، والذي أعاد نشر “المسألة” و"الغرغرينة” بعد مصادرتهما بفرنسا، وأصدر أيضا “عملية فرض السلام” لحفيظ كرمان، و«الاستيلاب الاستعماري” لسعدية ولحضر، “مواليد” لمحمد بودية و"من العدالة” لروبير دافزي. وشارك هذا الناشر السويسري في إنشاء الشبكات المساندة لجبهة التحرير، كما ساعد حركة “المقاومة الفتية” للفارين من الخدمة العسكرية الفرنسية. وشارك في الندوة الفرنسي جوليان آج الحائز على دكتوراه في التاريخ من جامعة فرساي سانكوينتين حول موضوع “فيلترنيلي- ماسبيرو فارغنتاخ: جيل جديد من الناشرين السياسيين من اليسار في أوروبا الغربية، كما صدر له “ماسبيرو ناشرا حزبيا”. حضر أيضا نيكول أوبير صاحب أطروحة خاصة بالناشرين في زمن حرب الجزائر، التي ناقشها سنة 2008. وغيرها من المؤلفات الخاصة بحرب الجزائر، علما أن أطروحته ستُنشر بالجزائر نهاية هذه السنة. الندوة نشّطها سفيان حجاج، الذي قدّم نبذة تاريخية عن المواقف الملتزمة التي تبنّاها المثقفون الفرنسيون باتجاه القضية الجزائرية، وكان منهم الناشرون الذين تصدّوا لتهديدات الاستعمار ولم يتخلوا يوما عن مواقفهم الحرة، فمورِس ضدهم الحصار الاقتصادي والقانوني وكل أنواع العنف، لكنهم واصلوا في العلن أو السر نشر ما يُكتب عن الثورة وكل ما يكذّب الدعاية الاستعمارية، على أن هذه الفترة سُميت ب “حرب الناشرين”؛ فمن بين ألف كتاب كُتب عن الجزائر صدر 50 فقط بين 1954 و1962، أما باقي العناوين فنُشر بعد الاستقلال، كما نُشر الكثير منها في إطار الاحتفالية “بخمسينية” الاستقلال. عالم النشر بفرنسا تعامل، في البداية، مع الثورة الجزائرية على أنها أحداث (أخبار)، ومع الوقت تَبين أنها فعل تاريخي هام، فتَجنّد الناشرون وعلى رأسهم ماسبيرو، لدعم هذه القضية حتى آخر رمق، بينما فضّل ناشرون آخرون الهدنة وتجنّب العقاب. كما كانت الحال مع غاليمار، التي لم تنشر عن الجزائر إلا ساعات قبل الاستقلال؛ من خلال جميلة بوباشا وجون سيناك. أما فيما يتعلق بالكتّاب الوطنيين الجزائريين فكانوا ينشرون في “المجاهد”، الذي يعاد طبعه عند أندرسون بسويسرا. سلّطت فرنسا الرقابة على ماسبيرو و"مينوي” (منتصف الليل)، ووصل الأمر إلى مصادرة الكتب والسجن، لكن هذا التضييق خدم الجزائر؛ لأن هؤلاء هَرّبوا ما كُتب عن الحرب إلى أوربا والعالم، وبالتالي انتشرت القضية أكثر. وصل الأمر - حسب المتدخل- إلى عرض الكتب بطريقة سرية في مكتبات باريس، ومع ذلك لا تكفّ فرق الدرك عن التفتيش المفاجئ. المتدخل أندرسون أشار إلى أن ما نشره كان بطلب من الناشرين الفرنسيين، الذين ضاقت بهم السبل في فرنسا، وهكذا بدأت عملية تسريب الكتب في تلك الفترة. كانت أوربا لاتزال تعيش كابوس ظلم النازية وويلات الحرب، لذلك وقف أحرارها مع قضية الجزائر، وكان - حسبه - التزاما إنسانيا وإيديولوجيا، وهكذا تم فضح جرائم فرنسا مثل التعذيب والإبادة، ثم الاختطاف داخل التراب الفرنسي لكل من يقف مع الجزائر. المحاضر جوليان آج تطرق لفضل التيار اليساري الفرنسي، الذي وقف ضد التعتيم على الحرب، والبداية كانت مع نشر شهادات المجنّدين الفرنسيين حول ما شاهدوه في حرب الجزائر من جرائم، وأصبح هؤلاء الناشرون بعدها مناضلين في صفوف الثورة. كما استعرض المحاضر مسيرة ماسبيرو، الذي شارك في مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس نصرةً للثورة. واتفق المشاركون على أن هذا الجيل من الناشرين الفرنسيين كان له دور في التغيير؛ من خلال الميادين والأفكار العادلة التي تصلح لكل زمان ومكان؛ لأنها تهم الإنسان أوّلا، وأوربا اليوم بحاجة إليها لتكون أكثر تواضعا وقربا من شعوب العالم. وهذه المبادئ لا تستطيع العولمة سحقها ولا أية متغيرات أخرى، فلقد كانت تلك المواقف شجاعة أمام آلة جهنمية مدمرة، تماما كما كانت ثورة الجزائر شجاعة؛ استطاعت أن تكون أعظم ثورة في تاريخ البشرية المعاصر. للتذكير، فقد أعقب الندوة نقاش مفتوح، شارك فيه بعض الفرنسيين الذين جُنّدوا في حرب الجزائر.