لا شك أن الجزائر عملت منذ الاستقلال على وضع مبادئ أساسية تقوم عليها السياسة الصحية، سعيا منها لتجسيد حق المواطن في العلاج، كما نصت عليه المواثيق والدساتير، والذي اعتبر مكسبا ثوريا. هذه المبادئ عرفت نجاحات وبعض الاختلالات عبر المراحل المختلفة التي مرت بها البلاد، وكانت وضعية الصحة العمومية للجزائر قبل الاستقلال متردية، حيث كان الشعب الجزائري يعاني الفقر والحرمان ومختلف الأمراض الوبائية الناتجة عن الظروف المعيشية السيئة لأغلبية الجزائريين من جهة، وغياب التغطية الصحية من جهة أخرى. وساهمت مختلف السياسات الصحية المنتهجة منذ الاستقلال في تحسين نوعية العلاج وتوسيع التغطية الصحية، مما أدى إلى رفع معدل عمر المواطن إلى أزيد من 76 سنة وتحقيق جل أهداف الألفية . ونجم عن هذه البرامج الصحية، القضاء على معظم الأمراض المعدية التي تفشت بكثرة خلال العشرية الأولى من عمر الاستقلال، إضافة إلى تحسين ظروف المعيشة، مما أدى إلى زيادة الأمل في الحياة من 47 إلى 76,5 سنة، رغم الظروف الصعبة وقلة الوسائل المادية والبشرية. وتأتي هذه النتائج، تتويجا للجهود التي بذلت، على غرار ديموقراطية التعليم العالي، لاسيما الفروع الطبية، وتطبيق سياسات العلاج المجاني بتبني برامج وقائية على مراحل، على رأسها البرنامج الموسع للقاحات الأطفال الذي بلغ مستوى تجاوز توصيات المنظمة العالمية للصحة (90 بالمائة). وقد ساهمت هذه الإجراءات في تخفيض وفيات الأطفال من 280 حالة لكل 1000 ولادة حية إلى 23 حالة لكل ولادة حية، وبهذه النسبة تكون الجزائر قد حققت أحد أهم أهداف الألفية، وفق معطيات الديوان الوطني للإحصاء. كما لعبت الموارد البشرية دورا هاما في تحسين نوعية العلاج، بفضل تدعيم التكوين الطبي وشبه الطبي بما مقداره 14 مرة، حيث انتقل تعداد السلكين من 5 آلاف خلال نفس العشرية إلى أكثر من 75 ألف خلال سنوات التسعينات، ليتجاوز هذا العدد 150 ألف السنة الماضية. وبفضل هذه الجهود، بلغت التغطية الشاملة للقاح المضاد للسل (بي.سي.جي) 99 بالمائة واللقاح المضاد للشلل 91 بالمائة والمضاد للحصبة 88 بالمائة، ومضاد التهاب الكبد الفيروسي 90 بالمائة، مما أدى إلى القضاء نهائيا على بعض الأمراض الفتاكة، على غرار الملاريا التي لا تزال المراقبة عبر الحدود تتصدى لها، وكذا مرض السل الذي سجل تراجعا محسوسا ليقدر ب20 حالة فقط لكل 100 ألف ساكن، وهي النسبة المماثلة المسجلة في بعض البلدان المتطورة، بالإضافة إلى التحكم في الأمراض الأخرى كالشلل والحصبة والديفتيريا التي أصبحت تقريبا منعدمة .
هياكل جوارية لتجسيد الصحة للجميع وأدى تعزيز القطاع بهياكل صحية إلى تراجع محسوس في الأمراض المعدية والقضاء على بعضها تماما، وكذا انخفاض الوفيات بصفة عامة ولدى الأطفال والأمهات الحوامل على وجه الخصوص إلى 5 بالمائة سنويا، بفضل ارتفاع معدل الولادة المدعمة طبيا الذي وصل إلى 98 بالمائة، وفتح 88 مصلحة تتكفل بصحة الأم والطفل بالعديد من المراكز الجوارية التي يحصيها القطر الوطني. يضاف إلى هذا، ضمان متابعة الحمل الذي يشكل خطورة على الأم إلى جانب تنظيم التخطيط العائلي، حيث انخفض معدل الإنجاب من 7 أطفال لكل امرأة خلال السنوات الأولى للاستقلال إلى2,5 طفل خلال السنوات الأخيرة. ورغم المجهودات المبذولة عرف التكفل بالعلاج المتخصص طلبا متناميا، مما استدعى اللجوء إلى تحويل عدد من المرضى إلى الخارج إلى فرنسا في بداية الأمر ثم دول أوروبية أخرى، من خلال تعاقد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مع المؤسسات الاستشفائية بهذه الدول . ورغم الانعكاسات السلبية للعشرية السوداء على القطاع، إلا أنه حافظ على وتيرة التقدم التي كان عليها، بل سجل تحسنا في أهم المؤشرات الوقائية والتلقيح والعلاج القاعدي. كما ساهمت سياسة الانفتاح بتعزيز القطاع بعدة عيادات استشفائية تابعة للقطاع الخاص، وتخلي الدولة عن احتكارها لاستيراد وتوزيع الأدوية لفائدة هذا القطاع، مع تشجيع بروز عدة وحدات إنتاج .
تكييف البرامج مع احتياجات السكان وتميزت العشرية الأخيرة، بتكيف البرامج الصحية مع احتياجات السكان وإعداد قوانين تسيير جديدة للمؤسسات الاستشفائية الكبرى، وتعزيز مراكز العلاج الجواري التي تتكفل بالعلاج القاعدي، حيث وصل عددها إلى 7033 مركزا وأكثر من 1500 عيادة متعددة الخدمات، بالإضافة إلى المؤسسات الاستشفائية الجامعية (14مستشفى) والمتخصصة ( 68 مؤسسة) وأكثر من 300 مؤسسة استشفائية تابعة للقطاع الخاص . وبتوفير هذا العدد الهائل من الهياكل الصحية المنتشرة عبر القطر، تكون الجزائر –حسب مدير الوقاية بوزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات والأستاذ المختص في الأمراض الوبائية، السيد إسماعيل مصباح- قد رفعت قدرة استيعاب المرضى خلال السنوات الأخيرة بأزيد من 71 ألف سرير أي ما يعادل سريرا واحدا لكل 500 مواطن. وشكل العنصر البشري محور هذه السياسات، بتكوين أكثر من 50 ألف طبيب في جميع الاختصاصات، مما كان له الأثر البارز على التوزيع العادل في العلاج عبر القطر، كما أدى الأثر المادي لمضاعفة ميزانية القطاع ب14 مرة منذ الاستقلال (أكثر من 233 مليار دج) بدوره إلى تحسين نوعية العلاج .
بطاقة "الشفاء" مولود العصرنة وكللت كل هذه المجهودات بعصرنة المنظومة الاجتماعية، بتعزيزها بالبطاقات المغناطيسية "الشفاء" والعمل على تعميم استعمالها، من خلال تعاقد الصندوق الوطني مع الوكالات الصيدلانية التابعة للقطاع الخاص وطبيب العائلة والمخابر البيولوجية، ما نجم عنه التكفل الجيد للصندوق بصحة المؤمنين اجتماعيا وذوي الحقوق البالغ عددهم 22 مليون جزائري. وقد منحت هذه البطاقة الإلكترونية معاناة دامت سنوات، ومكّنت حتى غير المؤمنين من ذوي الحقوق الاستفادة من التغطية الاجتماعية واقتناء الدواء مجانا. كما كان للصحة المدرسية مفعولها الإيجابي على ترقية صحة النشء، من خلال المتابعة المستمرة لجميع الأطوار، فيما لعبت جمعيات المرضى إلى جانب بقية المتدخلين في القطاع دورا محوريا في المساهمة في التحسيس والتوعية، مما ساهم إيجابيا في إثراء المخططات الوطنية وجعلها أكثر مسايرة للواقع . إلا أنه وعلى الرغم من المجهودات المبذولة والنتائج الإيجابية التي عرفها القطاع، يجمع الخبراء على أن العشرية الأخيرة أفرزت معطيات جديدة، تمثلت أساسا في نقص التنظيم والتسيير، مما حتم رفع تحديات تتعلق بالتحكم في الاتصال الصحي وتعزيز وتنسيق العمل بين القطاعات وتطوير اليقظة الصحية . ويؤكد الخبراء، أن السنوات القادمة ستكون بمثابة تحد لمواجهة ظهور أمراض جديدة مرتبطة بالمحيط والسلوك الفردي، وكذا توسيع شريحة الأشخاص المسنين التي تستدعي عناية مميزة تأخذ في الحسبان، ليس فقط التكفل الصحي وإنما كذلك التكفل النفساني والاجتماعي . كما يعتبر التحكم في التموين بالمواد الصيدلانية وتنمية الموارد البشرية عاملين هامين يتطلبان جهودا إضافية لتلبية احتياجات السكان، إلى جانب عصرنة تسيير المستشفيات الكبرى وإدراج عقود النجاعة التي تفرض نفسها من أجل تشجيع المنافسة التي ينجم عنها تحسين تسيير الخدمات .