ظل الراحل على امتداد عمره الطويل ينازع الجزائريين حبهم لوطنهم، كما استطاع أن يربي أجيالا على أشعاره التي تغنت بثورة التحرير وشهدائها، إنه الشاعر الذي جعل من الأوراس أسطورة مقدسة تحكي ملحمة الثوار... غاب العيسى، لكن أغانيه وأشعاره لاتزال ترددها الشفاه بترانيم منبعثة من وجدان ترعرع على حب الوطنية. أغلب الجزائريين اكتشفوا سليمان العيسى والتقوا به على صفحات الكتب المدرسية منذ فجر الاستقلال، ليبقوا يرددون أشعاره الجميلة ويتغنون بها، كلها أشعار وطنية ملتحمة بثورة الجزائر المجيدة، هذه الجزائر التي قدّرت للشاعر وقوفه القوي مع ثورتها في أيام المحن؛ حيث هزت أشعاره وجدان العرب من المحيط إلى الخليج وهو ينقل صور التضحية ويتألم لإبادة الجزائريين، لكنه ظل صانعا للأمل بفضل بسالة جيش تحرير الجزائر وتضحيات أبنائه وبناته، كحال جميلة بوحيرد، وظل يرسم غدا مشرقا لجزائر الاستقلال والحرية. غداة هذا الاستقلال كرّمت الجزائر العيسى، بأن أدرجت أغلب أشعاره الوطنية والتربوية في منظومتها التعليمية، قاصدة بذلك أن يتربى أجيال الاستقلال على هذه القيم الوطنية والإنسانية السمحاء والسامية، وكان من أهمها ألاّ ينحني أبناء الأرض للغزاة والطامعين. تأثر بأشعار العيسى جيل كامل من الشعراء الجزائريين على الرغم من بعده عنهم، فلقد كان عظيما في شعره، جليلا في كلمته، هيّأ للشعراء الهواة فضاءات من الإبداع كانوا بحاجة إليها؛ حيث عبّأوا منها ما استطاعوا، لينطلقوا في مسارات الشعر. ظل العيسى يرحّب بأي جزائري تطأ قدمه الشام ليحتضنه ويقول له: “أهلا بالجزائر، أهلا بالأوراس، أهلا بالأبطال”. كان الراحل يتحدث كثيرا عن علاقته بالثورة الجزائرية، التي بقيت تكبر في وجدانه وتتأصل في روحه وتتجذّر في كيانه كلما ابتعدت عنه زمنيا، حسبما أكد ذلك شاعرنا الكبير عز الدين ميهوبي في إحدى كتاباته، مشيرا إلى أن الراحل كان يروي له بالتفاصيل الدقيقة لحظة الكتابة عن الجزائر، وكيف كانت تصله أخبارها، متمنيا ساعتها لو أنه دوّن تلك اللحظات المفعمة بحب الجزائر والاعتزاز بشعبها والانتصار لثورتها والصدق الكبير في تخليد تلك البطولات النادرة. بقي العيسى يتحدث عن الجزائر بحب، وكان ديوانه الشعري عن الجزائر خير دليل على تعلقه بأرض المليون ونصف المليون شهيد وكذا ديوان الجزائر ودمشق حكاية الأزل، الذي هو نفح من نفحات القومية العربية. ظلت أمنيته أن يرى أبناء الجزائر يحتفظون بهذه الأشعار؛ لأنه كتبها لهم وللتاريخ، وهو الأمر الذي رأته الجزائر واجبا عليها، فبادرت بتكريمه واستضافته مرارا، حيث كرّمته سنة 2000، ثم في 2004، حيث منحته وسام صديق الثورة الجزائرية، حينها قرأ نصا جميلا، لكنه لم يُخف شعوره إزاء لقب “صديق” قائلا: “أنا لست صديقا لها، بل أنا ابنها مثل كل الجزائريين”. قال العيسى يوم استشهاد البطل زيغود يوسف: ”صمت على الوادي يروّع الوادي وسحابة من لوعة وحداد أرسى على الهضبات ريش نسورها وتمزقت من بعد طول جلّاد هذا الوميض.. فلا أنين شظية يصمى، ولا تكبيرة استشهاد”. ويختم هذه القصيدة الجميلة قائلا: ”يا سفح يوسف يا خصيب كمينه يا روعة الأجداد في الأحفاد يا إرث موسى في النسور وعقبة والبحر حولك زورق ابن زيّاد يا شمخة التاريخ في أوراسنا يا نبع ملحمة بثغر الحادي أتموت؟ تاريخ الرجولة فرية كبرى إذن، ووضاءة الأمجاد أتموت كل حنية بجزائري ميلاد شعب رائع ميلادي”. أحب سليمان العيسى الأطفال تماما كما أحب الجزائر، فكتب سيرته ورواها شعرا للأطفال، كانت بعنوان: “أحكي لكم طفولتي يا صغار”. ترجمتها إلى العربية زوجته الدكتورة ملك أبيض، وهي ذاتها التي ترجمت أعمالا أدبية لكبار الأدباء الجزائريين منهم مالك حداد وكاتب ياسين. وأهدى الراحل هذا العمل ا لاتحاد الكتّاب الجزائريين عندما زار الجزائر عام 2000، وتنازل عن كل حقوقه لأطفال الجزائر دوما. الكتابة للأطفال كانت بالنسبة للراحل هروبا إلى المستقبل والتشبث بحلم حمله، رأى في الأطفال فرح الحياة ومجدها الحقيقي؛ لأنهم المستقبل، ولأنهم الشباب الذين سيملأون الساحة غدا أو بعد غد، إنهم امتدادنا في هذه الأرض؛ فهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية، لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطلت ألف عام، وعروبتها التي جفّت ألف عام، كان يقول رحمه الله: “إنني أكتب للصغار لأسلّيهم، ربما كانت أية لعبة أو كرة أجدى وأنفع في هذا المجال، إنني أنقل إليهم تجربتي القومية، تجربتي الإنسانية، تجربتي النفسية... أنقل إليهم همومي وأحلامي”. العيسى من الأدباء الذين أثروا رصيد أدب الطفل بأعمال حملت رسالة مصاغة بما يتلاءم مع المدارك العقلية للأطفال. في قصيدة “نشيد الوحدة” يقول: ”طيروا في أرض العرب لا تعترفوا بالأسوار رباني أمي وأبي للحرية والإصرار طرنا مثل العصفورة نحن ملايين الأولاد حررنا الأرض المقهورة وحّدنا وطن الأجداد”. سليمان العيسى كان منذ بدايته شاعر قضية، قال ذات مرة: “أقاتل بالشعر منذ كتبت أول قصيدة لي تحت شجرة التوت، التي تظلل باحة بيتنا في قريتي الصغيرة النعيرية في اسكندرونة”. للتذكير، فإن الشاعر من مواليد 1921 بالنعيرية. تلقّى تعليمه وثقافته الأولى بالقرية، فحفظ القرآن والمعلقات وديوان المتنبي وآلاف الأبيات من الشعر العربي. بدأ كتابة الشعر في التاسعة من عمره؛ حيث كتب ديوانه في القرية، تحدّث فيه عن هموم وبؤس الفلاحين. دخل الابتدائية في أنطاكيا. وضعه المدير في الصف الرابع مباشرة، حينها كانت ثورة اللواء قد اشتعلت، ليشارك بقصائده في المظاهرات وفي النضال مع أسماء لامعة لثوار سوريا، الذين صدّوا سياسة التقسيم التي تبنّاها الانتداب الفرنسي. ذاق مرارة التشرد في دراسته خاصة في الثانوية، وعرف قيمة الكفاح، ودخل السجن أكثر من مرة، ليشارك في تأسيس حزب البعث وهو لايزال طالبا ثانويا بدمشق في بداية الأربعينيات. درس الراحل في دار المعلمين ببغداد، ثم بحلب، ثم عمل موجها أوّل للغة في وزارة التربية السورية، كما كان عضوا في جمعيات ثقافية هامة، كما ساهم في تأسيس اتحاد الكتّاب العرب. أجاد الراحل الفرنسية والإنجليزية وألمّ باللغة التركية، لذلك ترجم أهم الروائع الأدبية والمسرحية العالمية، خاصة الموجهة للطفل. برحيل العيسى فإن الساحة الأدبية والثقافية العربية تفقد واحدا من أبرز وأغزر مبدعيها.