قراءة مسار سليمان العيسى هي قراءة لمسار فكرة وطرح وتحولات تتابعت في المنطقة العربية منذ زمن سايكس بيكو.. قراءة العيسى هي قراءة لمدونة من مدونات المنجز الشعري العربي بمختلف اتجاهاته وتشكلاته، وكان للعيسى مساره المرتبط بسيرورة تشكله، مسار شاعر مسكون بالهاجس الجمعي القطري والقومي والإنساني.. في الذكرى الخامسة لرحيل محمود درويش رحل عن دنيانا شاعر عاصر تحولات وعاش نحو القرن، رحل سليمان العيسى الذي بدأ حياته بضياع مسقط رأسه الذي سلخ من سوريا وألحق بتركيا وكانت خاتمة مشواره مع الوضع المفجع الذي تعيشه سوريا. وظل العيسى مشدودا إلى طفولة طبعتها عملية سلخ، تحولت إلى جرح ينزف كلمات شعرية تعيد صياغة التاريخ، كلمات تجترح الجرح، وآخر كتاب للمرحوم كان عن قريته: "النُعيرية قريتي".. رحل سليمان في أجواء عيد فقد النكهة، وصار لسان الحال يردد لازمة المتنبي: "بأي حال عدت يا عيد". سليمان كان من بدايته شاعر قضية، قضية الإنسان وقضية الانتماء.. بدأ الشعر بالكتابة عن الفلاحين وما يعانونه.. يقول الشاعر سليمان عيسى: "أقاتل بالشعر منذ كتبت أول قصيدة لي تحت شجرة التوت التي تظلل باحة بيتنا في قريتي الصغيرة (النعيرية) في لواء الاسكندرونة". الشعر بالنسبة للعيسى انوجاد وانبعاث ورتق ما يفتقه السلخ والبتر.. الشعر حياة، تكثيف للحياة بنحت المفردة التي تتغذى من الواقع وتمتد لتغذيه بما يرتفع به عن الارتهان لعابر يمارس المحو، فيصير الشعر محوا مضادا، يكتب الذي يبقي النبضات. ومن طفولته سكنه الهاجس القومي وكثف الشحن سلخ مسقط رأسه فكانت العروبة حاضرة كمقوم من مقومات سيرورته وصيرورته. واندمج في بوتقة النضال ضد الانتداب الفرنسي وتشبع بالتوجه القومي فحمله طيلة حياته ودفع الضريبة بتعرضه للسجن. كانت سوريا مهدا للفكر القومي، كانت موطنا حاضنا لحركات ودعوات تنوعت من الكواكبي إلى زكي الأرسوزي وميشال عفلق، وكان العيسى يحضر رفقة زملائه لاجتماعات "نادي العروبة" التي كان يشرف عليها الأرسوزي مع رفاقه في سياق مواجهة سلطات الانتداب الفرنسي.. وتنقل العيسى إلى بغداد لمواصلة الدراسة وكانت العراق بدورها تغلي سياسيا وتعرف تحولات حاسمة في الاتجاهات الشعرية خاصة مع رواد التشكيل الشعري المتجاوز لهيمنة النسقية العمودية. رغم الظرف بصراعاته ومعاناته، كان الحلم كبيرا، كانت القضية تسكن الذات فتؤجج الشعلة البرومثيوسية، يقول العيسى: "كنا نحلم.. أنّا سوف نهزُ الشمس، فتسقطُ في أرض الفقراء، بيادر من قمحٍ وغلال". كان العيسى فاعلا سياسيا فهو من مؤسسي حزب البعث في السابع أفريل 1947 في مقهى الرشيد الصيفي بدمشق، وكان دينامو جريدة الحزب الأسبوعية "البعث" كان يكتب كل صفحاتها، وبسبب مواقفه ونضاله ضد الانتداب كان من أوائل البعثيين الذين تعرضوا للسجن بعد تظاهرات ضد سلطة الانتداب. يستعيد العيسى ماضيه، معتزا به فهو رأسماله وقاعدة تشكله يقول: "أعتزُ بشيءٍ واحد، هو أحلامي التي كانت وراء كل كلمةٍ قلتها في حياتي، ولا أرى لحياتي معنى من دون حلم، ومنذ أن رفعني المناضل زكي الأرسوزي بيديه ووضعني على منبر (نادي العروبة) في أنطاكية لألقي أولى قصائدي في جمهورٍ حاشد؛ إبان انتفاضة اللواء، وأنا تلميذٌ في المدرسة الابتدائية، إلى آخر كتاب شعري وضعته (النُعيرية قريتي) أشعر أن ربة الشعر واحدة في حنجرتي، يخفتُ صوتها ويقوى، ينكسر ويشتدُ، يصمتُ حيناً ويعاود الغناء، ولكن الكلمة هي الكلمة، والغناء هو الغناء، والنسغ الذي جرى يوماً في العروق لا يزال يجري، فمن طبيعة الشجرة أن تعيش بنسغها، فهي لا تستطيع له تغييراً، ولو غيّرته لزوّرت حياتها كلها". لقد شكل الحلم دوما الحياة، وكانت اليوتيبيا أقوى من الفناء.. الحلم منح للحياة المعنى وأمدت الرؤيا المبدع بالرؤية، الرؤية المتشكلة بامتحانات المسار. ولقد ظل الجدل محتدما حول علاقة الإبداع بالواقع وبالسياسة، واحتكم البعض لكليشيهات نمطية عندما يتحدثون عن شاعر كالعيسى ووضعا للنقاط على الحروف قال شاعرنا: "لم تكن في حياتي سياسة في يومٍ من الأيام، هذه الكلمة أراها ضد الشعر في امتياز، فأنا طفلُ مشرد من لواء اسكندرون، رأى نفسه ذات يوم يُقلتع من تحت شجرة التوت التي تظلل باحة داره، ويُلقى في أحضان الغربة، بعد اقتطاع بلده الصغير، مسقط رأسه، ومنذ ذلك الحين فتحت عينيّ على حلمٍ عربي كان محور حياتي وشعري، ومازلتُ مصراً على هذا الحلم الذي تدور حياتي وشعري حوله، فهل يمكن أن تدخل هذه الكلمة المراوغة (السياسة) في مثل هذا المجال؟" وبخصوص لعبة التصنيفات وخصوصا تداول وصف ملتزم قال الشاعرالمرحوم: "لا أحب كلمة ملتزم، ولا كلمة التزام، لأني أرى التعبير مصطنعاً مهما أجيدت صياغته، كانت الجماهير العربية ومازالت قصيدتي الأولى أعطتني أكثر ما أعطيتها، فمهمة الكلمة أن تتحول إلى طاقةٍ وفعل، فالكلمة ليست مجرد شكل لفظي، يتألف من حروف وإيقاعات صوتية، إنها جزء لا يتجزأ من وجودنا، من حقيقتنا، من سلوكنا اليومي، فإذا لم تحمل رصيداً من هذه الحقيقة، ظلت شيئاً يدور في الفراغ، ولا يترك أي أثر، فالكلمة هي الإنسان". وقراءة مسار سليمان العيسى هي قراءة لمسار فكرة وطرح وتحولات تتابعت في المنطقة العربية منذ زمن سايكس بيكو. قراءة العيسى هي قراءة لمدونة من مدونات المنجز الشعري العربي بمختلف اتجاهاته وتشكلاته، وكان للعيسى مساره المرتبط بسيرورة تشكله، مسار شاعر مسكون بالهاجس الجمعي القطري والقومي والإنساني. حضرت الجزائر في مسار العيسى، حملها في أشعاره التي تفاعل فيها مع الثورة الجزائرية وكتب عن أحداثها ورموزها.. قال يوم استشهد البطل زيغود يوسف: "صمت على الوادي يروّع الوادي وسحابة من لوعة وحداد أرسى على الهضبات ريش نسورها وتمزقت من بعد طول جلاد هدأ الوميض.. فلا أنين شظية يُصمى، ولا تكبيرة استشهاد'' ويختم هذه القصيدة الجميلة الرائعة قائلا: ‘'يا سفح يوسف يا خضيب كمينه يا روعة الأجداد في الأحفاد يا إرث موسى في النسور وعقبة والبحر حولك زورق ابن زياّد يا شمخة التاريخ في أوراسنا يا نبع ملحمة بثغر الحادي أتموت؟ تاريخ الرجولة فرية كبرى إذن، ووضاءة الأمجاد أتموت كل حنية بجزائري ميلاد شعب رائع ميلادي" ويعتبر العيسى من أكثر الشعراء العرب الذين حضرت الجزائر في نصوصهم، حضورا استمر معه في مسيرته وقاده ما يحمله عن الجزائر إلى الاهتمام بأدبها فترجم مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض بعض أعمال كتابنا بالفرنسية. إننا كجزائريين من الجدير بنا إذا ما أردنا فعلا المصالحة مع ذاكرتنا وتاريخنا استحضار كل من وقفوا معنا وانصهروا في بوتقة واحدة معنا من أجل حريتنا وخدمة لثقافتنا. ولعل هذا ما عبر عنه بعض أدبائنا كالشاعر بوزيد حرز الله في التعليقات الأولى بعد ورود خبر رحيله. قال شاعرنا: "اذكروا أني كالأطفال غنيتُ، وطاردتُ الفراشات طويلاً.. تسلقتُ الشجر.. وقطفتُ التين والرمان من بساتين جدي والقمر" بعد هزيمة جوان التفت الشاعر سليمان عيسى إلى الأطفال فخصص جهده الإبداعي لهم، تخصيصا يحمل دلالات التمسك بغد آخر ينسخ ما توالى من فجائع وخيبات في منحنيات الزمن العربي. وفي التفاته إلى الأطفال، كان ينشد صبح يتنفس ويبدد يقول: "وأنا لن أقطع خيط الأمل، وعندما تمر كارثة من الكوارث مثل كارثة 1967، كنت أحس أن الدنيا (طربقت) فوق رأسي وبدأت أختنق. ورأساً بدأت أدق الجدران السود حولي، وفتحت نافذة اسمها "الكتابة للأطفال". ماذا يعني الأطفال؟.. يعني المستقبل. الحقيقة أنني لم أكتب للأطفال إلا من أجل أن أفتح للأطفال نوافذ أعبر بواسطتها عن الهم الذي حملته دائماً وعبّرت عنه، وقاتلت من أجله. الكتابة للأطفال كانت بالنسبة لي الهروب إلى المستقبل، نوعاً من التشبث بالمستقبل، التشبث بالحلم نفسه الذي حملته." وأضاف في تصريح آخر تفصيل ذلك بقوله: "لأنهم فرح الحياة ومجدها الحقيقي، لأنهم المستقبل، لأنهم الشباب الذي سيملأ الساحة غداً أو بعد غد، لأنهم امتدادي وامتدادك في هذه الأرض، لأنهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطلت ألف عام، وعروبتها التي جفت ألف عام.. إنني أكتب للصغار لأسليهم، ربّما كانت أي لعبة أو كرة أجْدى وأنفع في هذا المجال، إنني أنقل إليهم تجربتي القومية، تجربتي الإنسانية، تجربتي النفسية... أنقل إليهم همومي وأحلامي". والعيسى من الأدباء الذين أثروا رصيد أدب الطفل بأعمال حملت رسالة مصاغة بما يتلاءم مع المدارك العقلية للأطفال. في قصيدة "نشيد الوحدة" يقول: "طيروا في أرض العرب لا تعترفوا بالأسوارْ رباني أمي وأبي للحرية، والإصرارْ طرْنا مثل العصفورةْ نحن ملايين الأولادْ حررنا الأرض المقهورةْ وحدنا وطن الأجداد". ويمكن أن نلخص الحديث عن شاعرنا بمفردتين هما الرؤيا والرؤية...رؤيا بحلم لم يتبدد رغم تراكم الانكسارات، ورؤية نضجت في خضم ما شهده قرن من التحولات الإقليمية. رحم الله شاعرنا الكبير.