الأستاذ الشريف الأدرع من الإعلاميين القلائل الذين اختصوا بشؤون المسرح في الجزائر، المسرح أخذ كل مجهود الأدرع الفكري في البحث، الدراسة وحتى الكتابة المسرحية بعد أن تفرغ لها على حساب القصة القصيرة، الشعر وبعض الفنون الأخرى، التقت به “المساء” وأجرت معه هذا الحديث حول المسرح في الجزائر ودوره في المجتمع، إلى جانب المشاكل التي تواجهه وكيفية تجاوزها ليعود إلى سالف مجده الذي سجل فيه خطوات عملاقة، ويأتي هذا اللقاء في بحر الدخول الاجتماعي الجديد. “المساء” : بداية بما أنك كتبت في القصة القصيرة ثم المسرح فأي النصوص أقرب إليك، وهل ما زلت تمارس كتابة القصة القصيرة، ولماذا خفت صوت القصة وأصبحت الرواية أم الفنون المكتوبة ؟ الأدرع: الواقع أن بداياتي الأولى في الكتابة وبالأحرى محاولاتي الأولى كانت في الشعر الملحون، القصة القصيرة والمسرحية في آن واحد، لكن شاءت الظروف أن تسبق القصة القصيرة الفنيّن الآخرين في النشر، وساهم ذلك إلى حد كبير في إطفاء شعلة الشعر والمسرح إلى حين، وإن كان الناظر إلى النصوص القصصية يجد فيها شيئا من الشعر وشيئا من الحوار يقربها كثيرا من المسرح، ثم لا تنسى أن المشترك بين القصة القصيرة والمسرحية أن كلاهما يعتمد على الاختزال والتركيز. وإذا كانت الضرورات هي التي تحتم اختيار فن ما، فإن اختياري للقصة القصيرة، ثم المسرح ساهم فيه أيضا ميلي الطبيعي إلى الكلام المختصر المفيد والابتعاد ما أمكن عن الهوامش، الزوائد والاستطرادات، خاصة إذا لم تكن الضرورة فنية، أنا لا أوافق على سيادة الرواية للمشهد الأدبي الجزائري، خاصة إذا ما راعينا القيمة الإبداعية لهذه الروايات و إذا كان المسرح لم يستطع تقديم أقلام تتفوق أو تعادل، أو على الأقل تذكر بعبد القادر علولة، عبد القادر ولد عبد الرحمن كاكي، رويشد وكاتب ياسين، فإن لذلك أسباب كثيرة نذكر منها أن المسرحية تحتاج إلى شركاء آخرين حتى تقدم على الركح ويشاهدها الجمهور، بمعنى أن الكاتب المسرحي في أمس الحاجة إلى هؤلاء الشركاء ويتحتم عليه دائما أن يستحضرهم وهو يكتب نص مسرحيته، وليس كذلك الروائي والشاعر.
عرف عن الشريف الأدرع ولعه بالمسرح، فبماذا تعلل شحوب المسرح الجزائري الحالي بعد مضي خمسين سنة من الاستقلال الوطني؟ إن النص المسرحي كأي نص أدبي، هو نص ثقافي يستقي مادته من واقع وتاريخ الأمة ويستخدم في عملية صياغته وتشكيله الخامات، الوسائل، الأساليب والصيغ التي تختزلها هذه الثقافة، وإذا كان واقعنا المادي، التاريخي، الاجتماعي، الثقافي والفني يعاني ما يعاني، فلا غرابة أن نجد مسرحنا ومؤلفاته صورة لكل ما ذكرنا، أضف إلى ذلك جانب المعرفة، الخبرة الثقافية والفنية التي صقلت مواهب كتابنا وفنانينا المسرحيين، لقد أعيى تصنيف المنجز الروائي والمسرحي لكاتب ياسين النقد الفرنسي، لأن رواياته ومسرحياته صيغت بخبرة إيقاعية وتشكيلية تمثل موسيقى وغناء المالوف القسنطيني أساسها، وكذلك حال ولد عبد الرحمن كاكي الذي استلهم شكله المسرحي من الشعر الملحون، عندما ترتقي كتاباتنا المسرحية إلى مستوى الإبداع الشعبي، ستتجاوز مشكلة الفقر الفني الذي تعانيه.
رواد المسرح الجزائري عملوا على بناء الشخصية الجزائرية، وإن صح التعبير ترميم هذه الشخصية من التصدعات التي لحقتها إبان الاستعمار الفرنسي، فكيف تقيمون دور المسرح اليوم في وضع ملامح هذه الشخصية؟ الإنسان بطبعه كائن تاريخي، وعندما يجري الحديث عن الشخصية الجزائرية فإن ذلك يعني أن الشخصية التي يدور الحديث حولها تاريخية، ومن تحصيل الحاصل أن تكون الشخصية التي يحاول المسرح وباقي الفنون تمثيلها متغيرة كأي كائن تاريخي، أنا لا يمكنني هنا أن أقدم وصفة بقدر ما أشير إلى مهام أراها ضرورية من أجل التمثيل الجيّد لصورة الإنسان الجزائري، الملاحظ أن الغرب بعد أن أخرج بقوة الحديد والنار من بلدان العالم الثالث، تركنا في غالب الأحيان غير قادرين عن التمثيل الصحيح بواقعنا ولشخصياتنا، يبرز ذلك في جهلنا لفنوننا وطرائق التعبير التي صاغتها أجيال وأجيال من شعبنا، فضلا عن عجزنا على اختيار القيم التي تناسب مجتمعنا و رؤيتنا للإنسان والتاريخ.
ما تزال اللغة المسرحية تشكل العائق الأبرز للمسرحيين بين من يدعو إلى كتابة النصوص بالفصحى ومن يدعو الى لغة وسطى أو الثالثة، بينما البعض يحاول أن يكتب بعامية ذات خليط لغوي، فأي لغة أقرب إليك لتقريب العمل المسرحي من المتلقي؟ قد تكون لهذه القضية بعض الأسباب التاريخية والواقعية، لكن يفترض في بلد مستقل خطا خطوات كبيرة على درب التكوين واستعادة لغته الوطنية أن يخرج من هذه القضية التي أصبحت بزنطية، أنا أرى أن ما يتطلبه المسرح سواء أكان ناطقا بالفصحى أو بالفرنسية أو بالإنجليزية أو بالعامية أو بالعبرية، هو أن تكون لغته لغة دراما وتعبير مسرحي، أما الباقي فديماغوجيا أو أيديولوجيا وليس بهذا نطور الفن المسرحي في بلادنا، ولا يعتقدن المرء أن موضوع اللغة يختزل في اللسان، بل هو ينفتح على مفهومنا للبناء، التأليف ولطريقة الحبك وغيرها من المواضيع التي تميز هذه الثقافة عن تلك وتطبع تعابيرها بالخصوصية الفنية التي لا نجدها في قاموس المسرحية.
مسرح الهواة الذي احتضنته مستغانم مؤخرا ومنحت جائزته إلى فرقة محترفة، فما الفرق بين عمل مسرحي متكامل هاو، وآخر محترف، وهل الاحتراف يعني التفرغ والمهنية، أم توفير كل المقاييس التي يفرضها المسرح الحديث؟ أعتقد أن الاحتراف يشير إلى التخصص، التفرغ وبالنتيجة إلى جعل الفن الممارس حرفة الممارسة، وقد يحقق المحترف لفن ما مستوى راقيا أو متوسطا أو غير ذلك، لأن الأمر يرتبط بالموهبة والتفاني في ممارسة الفن وبالجهد المبذول في سبيل ذلك، أما الهاوي فهو الذي يمارس فنه بدافع الهواية دون أن يجعل منه حرفة، وقد يمارسه عن موهبة، وبتفان قد لا ينقص عن التفاني الذي يبديه المحترف، ويحدث أن يتفوق الهواة على المحترفين، على العموم نحن لا نحبذ وضعهما في حالة تعارض، بل على العكس من ذلك ندعو إلى التكامل فيما بين الممارستين.
في العلاقة بين الجمهور والمسرح، نجد الجمهور يلقي باللائمة على المسرحيين الذين يبتعدون عن واقعه ويقتبسون نصوصا ربما لا تمسه من قريب أو بعيد، وهذا ما يجعل الجمهور يضرب عن المسرح، بينما يلقي المسرحيون باللائمة على الجمهور الذي خمدت فيه جذوة الذوق وخسر الكثير من حسه الجمالي، فبما تفسر هذه المفارقة؟ المسرحي الواعي لا يغيب عن ذهنه لحظة أن الجمهور شريك في اللعبة المسرحية، كما يقول “ميير هولت”، لذلك يأخذ بعين الاعتبار مستواه الثقافي، ذوقه الفني سواء في الكتابة أو التمثيل أو الإخراج، والمسرحي الذي يتخذ من البداية موقفا سلبيا من الجمهور ومستواه الثقافي والفني ما عليه إلا أن يستورد جمهوره.
هل المسرح ما يزال يقوم بدور الوظيفة التاريخية من حيث طرحه واشتغاله على التاريخ، أم أنه تجاوز هذه المرحلة إلى المرحلة الواقعية الاجتماعية ليطرح انشغالات المجتمع؟ الاهتمام بالواقع، بالسياسة من وجوه الاهتمام بالتاريخ، يمكن للمسرح أن يضمّن التاريخ في عمله المسرحي من خلال الأسماء، اللباس وطريقة التمثيل في هذا الصدد أذكر أن مرة عرض الحاكم العسكري على شبّاح المكي الأوراسي مساعدته بالملابس مادام أنه يهتم بالتاريخ، فأجابه شبّاح المكي: “لسنا بحاجة إلى ملابس تاريخية، نحن كما ترانا بملابسنا هذه وسحناتنا تاريخا”، نستطيع ببساطة من خلال حكايات تتداول في الأسواق غاية في البساطة أن نؤرخ لعقد مشكلاتنا السياسية الراهنة، دونما حاجة إلى الوعظ والخطابة.
التكوين في الماضي، الجزائر لم تكن تملك مراكز للتكوين، رغم ذلك استعانت بخبرات أجنبية وأوفدت البعثات إلى الخارج، مما جعل المسرح الجزائري يزدهر في فترة سبعينيات القرن الماضي، فهل مازالت هذه التجربة قابلة للاستثمار؟ الأمر كله يرتبط بتشخيص الواقع الفني، تقدير النقائص، ضبط حاجيات بدقة ووضع خطط وسياسات للإجابة عن هذه الحاجيات، إذا كان في الجزائر ما يكفي من الموارد البشرية والمادية فليتم ذلك في الجزائر، وإذا كان الأمر يحتاج إلى تعاون فليكن، وإذا كان الأمر يحتاج إلى تكوين في الخارج، فما المانع مادمنا نقوم بذلك في القطاعات غير الفنية، يبقى أننا دائما نحتاج إلى تكوين وإلى إعادة تكوين.
هل المسرحي الجزائري سواء كان ممثلا أم مخرجا أم غيره له من الثقافة ما يؤهله ليكون مسرحيا؟ صراحة أنا لم أدرس موضوع المستوى الثقافي للفنانين الجزائريين، لكن أعرف أن كثيرا منهم يملكون ثقافة فنية حقيقية، مشكلتنا أعتقد هي في توفير ما يسميه “جون دو فينيو” الشروط الجمالية للممارسة المسرحية، أضف إلى ذلك أن المسرح الجزائري منذ البداية كان مسرح أصحاب الشهادة الابتدائية في أحسن الأحوال، أما الدكاترة فقد عادوه في أغلب الأحيان، يجب التمييز بين الثقافة، الشهادة، التجربة، الموهبة وغيرها من ضرورات الفن حتى لا نظلم هؤلاء الذين بالرغم من كل شيء حافظوا على صورتنا على الركح، المسرح باختصار بأزمته يشير إلى الأزمة الاجتماعية وإلى مازق تاريخي ما يحتاج إلى الكثير من العلم لفهم أوجهه، يحتاج إلى الكثير من الفن للتعبير على صوره، وإلى الكثير من الحب لهذا الشعب وهذا البلد الذي بالرغم من كل شيء يغسلنا بنور شمسه.
هل من جديد للأستاذ الشريف الأدرع ؟ هذه الأيام ستصدر لي مسرحية ادوارد سعيد أو “حكاية اليهودي المعكوسة” إذا كنت في مسرحية جحا قدمت صورة ساخرة لمشكلة المثقف في الجزائر وفي وطننا العربي الإسلامي، وإن كانت صورة قد تأبطت شيئا من المأساة فإن هذه المسرحية هي تراجيدية تماما، وإن شابها بعض السخرية، تدور حول المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد الذي شاء له القدر أن يكون خارج المكان القدس التي ولد فيها، وخارج فلسطين التي يجري التفاوض عليها، هو المثقف الذي جعل منذ السبعينيات إلى وفاته من قضية فلسطي،ن قضية حياته وتلك هي التراجيدية.