دأبت ربات البيوت على تخزين المؤونة بغية استثمار الموسم الصيفي في المطبخ الشتوي، لكن مع تغيّر أنماط العيش، أوشكت أن تختفي هذه العادة ليس فقط بسبب موجة الغلاء السائدة في الأسواق المحلية، وإنما بفضل توافر كافة المواد التموينية في المتاجر. مما جعل الأسرة الجزائرية تلجأ إلى تخفيض المؤونة إلى النصف تقريبا، خاصة في موسم الأمطار والبرد، حسبما توضحه لنا السيدة فاطمة عبيد، عضو جمعية «الإبرة الذهبية» لمدينة تقرت. قديما، كانت المؤونة جزءا من التراث الشعبي العفوي، وكان الفلاحون يتمسكون بهذا التقليد الموروث عن الآباء والأجداد. يكفي مشهد التقاء النسوة حول «الجفان» لفتل الكسكسي وغيره من أنواع العجائن، أو تعليق حبات الفلفل في سقف المنزل حتى تجف ويتم استعمالها عند وقت الحاجة، إلى جانب «تخليل» الزيتون وغيره لتأكيد ذلك، لكن مع تغيّر أنماط المعيشة اختفت الكثير من تلك العادات، فالمخللات أصبحت زينة المساحات التجارية التي أصبحت منتشرة في جميع المناطق تقريبا وعلى نطاق واسع، كما أن بروز وتنامي ظاهرة فتل الكسكسي، مع تحضير العجائن، مثل «الرشتة»، «الشخشوخة» وغيرها وبيعها في الأسواق، أثّر بشكل كبير على تحضير المؤونة أو العولة، تحسبا لأيام البرد والمطر. هكذا استهلت السيدة فاطمة عبيد التي التقتها «المساء» مؤخرا، على هامش انعقاد الصالون الدولي للصناعة التقليدية بالعاصمة حديثها، مشيرة إلى أن «العولة» لم تعد تقليدا من التراث الشعبي، كما في الماضي؛ «حاليا صرنا نشتري ما نحتاجه من المحلات كل يوم، بفضل توفر السلع والمنتوجات في الأسواق المحلية، ولما ينزل ضيفا علينا لا نتحرج، لا نضطرب ولا نتساءل؛ ماذا نعد له على مائدة الطعام؟ فإن زيارة صغيرة للسوق تسهل علينا المهمة»، تقول المتحدثة وتضيف؛ «في الماضي كنا نعتمد على تحضير كل شيء بكميات كبيرة، تلتقي النساء في بيت إحداهن لفتل الكسكسي و»البركوكش»، وهما من مشتقات الدقيق الأول يُفتل متوسطا، بينما يفتل الثاني خشنا، وتعتمد عليها الأسر التقرتية في تحضير أكلها خلال موسم البرد». وتواصل السيدة فاطمة حديثها وهي تمسك بطرف قطعة قماش، تغرز فيها خيطا صوفيا لتطرزه على الطريقة المحلية، فتقول بأن طقس منطقة تقرت الحار والجاف يؤثر بشكل كبير على عادات الأكل، «لذلك فإن ربة البيت تعتمد في تحضيرها للطبق الرئيسي على المرق الأحمر، شريطة أن يكون حارا، حيث تعتبر حبات الفلفل الحار من أساسيات أطباقنا، أما الطبق المشهور لدى الأسر التقرتية فيتمثل في البندراڤ الذي يعطي الجسم طاقة مقاومة لبرودة الطقس خلال فصل الشتاء، وهو محبب كثيرا لدى كل أفراد العائلة». و«البندراڤ» كما تشرح المتحدثة، عبارة عن عشبة برية غنية بالأملاح والمغنزيوم، تنمو في البراري، تعتمد الأسر في المنطقة على جمعها أثناء الموسم الصيفي وتجفيفها، وعند استعمالها تخلط بأوراق الشمندر أو أوراق البْلَد (السلق) وتضاف إليها الكابو (الكابويا)، الفول اليابس، البصل، البطاطا والتوابل، وتترك لتطهى، بعدها تُرحى حتى تصبح كالعصيدة، ثم يُسقى بها الكسكسي، «لا تستعمل الطماطم في هذه الأكلة، بل تطهى بالخضار وتحضر أكثر من مرة في الأسبوع لأنها مغذية جدا وتمد الجسم بالطاقة، كما تعتبر من الأطباق الأكثر شعبية عندنا»، تقول السيدة عبيد. إلى جانب هذا الطبق، فإن «البركوكش» الذي يعرف في مناطق أخرى من الوطن ب «العيش» أو «المردود» أو «البركوكس»، يعتبر طبقا آخر لا يقل أهمية عن طبق «البندراڤ»، حيث يحضر بالمرق الأحمر والاستعانة بالخضر الموسمية، لكن باستعمال الطماطم الطازجة والمصبرة، ومن الأساسي أن توضع حبات الفلفل الحار على الطبق عند تقديمه لأفراد الأسرة أو الضيوف. و»البركوكش» التقرتي يحضر بالرأس، أي «البوزلوف» كما يسمى في مناطق أخرى من الوطن، إلى جانب اللحم، الفول اليابس، الحمص وحبات من البطاطا مع مزيج من التوابل، «وهو طبق ثقيل، حار ومطلوب جدا، أما تعلقنا وتفضيلنا للأكل الحار فيعود إلى طبيعة المنطقة القاسية والانخفاض الكبير لدرجة الحرارة شتاء، مما يجعل الفرد يقبل على الأكل الحار الذي يسبب له تعرقا، وبالتالي الإحساس بالدفء، كما أن الحرارة خلال الموسم الصيفي تفقد الفرد شهيته للأكل، لكن الحار يفتح الشهية، بالتالي يسهل عليه تناول الأكل عوض التكاسل بسبب حرارة الجو».إلى جانب الأطباق المذكورة، تحضر الأسر بمنطقة تقرت حساء «جاري فريك» وهو شبيه بالشوربة المعروفة بكل أرجاء الوطن، كما يوجد هناك طبق «التليتلي» وهو من العجائن، يحضر بمرق أحمر ولحم الغنم والفلفل الحار سواء بالمرق أو حبات توضع فوق الطبق عند تقديمه.. كل هذه الأطباق يعتمد عليها في إحياء المناسبات التقرتية من أعراس أو حفلات ختان وغيرها. كما تشير المتحدثة إلى وجود عدة جمعيات محلية تعلم الشابات كيفية تحضير هذه الأطباق بغرض توريث التقاليد والمحافظة عليها من الزوال، خاصة أن العديد من الأمهات اليوم يعملن خارج البيت، مما يجعل التوجه نحو هذه الجمعيات بغرض التعلم وتلقين عدة فنون ظاهرة في تزايد ملحوظ.