صعبة هي الأيام التي نستعيد فيها ألبوم الذكريات المؤلمة، والثالث عشر من فيفري 1995 هو من بين الأيام التي لا نحبّذ أن نتذكّرها؛ حيث أسكتت أيدي الإرهاب صوتا جهوريا متميّزا، وأردت عز الدين مجوبي قتيلا بساحة بور سعيد.. مجوبي الذي لا يمكن الحديث عن المسرح الجزائري دون ذكر تجربته المتميّزة ولا نتصوّر أنّ حافلته توقّفت.. ف ”نوارة بنتي” كبرت، وكبر داخلها حب الجزائر رغم الداء والأعداء. الداخل إلى ”عالم البعوش” بقي وفيا لمبادئه وحمل هم الوطن، وحاول في أعماله الفنية سواء المسرحية أو السينمائية، نقل واقع مجتمعه بنبرة صوته الجهوري وجسده النحيف، خلّدته أعماله للأزل، كيف لا وهو الذي حاول التأسيس لمدرسة مسرحية تنطلق من الراهن الإنساني، ليصنع الفرجة التي كانت ملجأ الجزائريين في أوقاتهم المؤلمة؛ حيث كان يمنح بأعماله لحظات من الهروب تارة، ومن التأمّل تارة أخرى. ابن ولاية سكيكدة الساحلية وهب حياته للمسرح، وأصبح بفضل تفانيه وعمله الدؤوب قامة من قامات المسرح الجزائري من نواحي الإبداع، ولم يتوان في نفخ روح جديدة في المسرح الوطني سنوات التسعينيات؛ إذ كانت الجزائر في أوج أزمتها الأمنية، وعمل جاهدا على تواصل العروض بقاعة ”محيي الدين بشطارزي”، حتى توصلت اليد الآثمة إلى تصفيته من أمام الباب الخلفي لمبنى المسرح الوطني. شهيد المسرح يشكّل بحق محطة مهمة في تاريخ المسرح الوطني الجزائري بالنظر إلى أعماله الخالدة، على غرار ”الحافلة تسير”، ”عالم البعوش” و«قالوا العرب قالوا” وغيرها، وكذا إلى مواقفه البطولية التي تنمّ عن جزائريته الصرفة، فواجه تهديدات الإرهاب بالإبداع والاستمرار في العروض، والجميع لايزالون يتذكّرون صرخته ”نوارة بنتي بنتي” في مسرحية ”الحافلة تسير”. نستحضر اليوم فقيد المسرح الجزائري الذي غاب وظلّت أعماله ومساعيه ومواقفه ومبادؤه التي حاول أن يترجمها مستعينا بأبي الفنون، فأسّس مع رفقائه بن قطاف، صونيا وزياني شريف عياد، مسرح ”القلعة”، التي كانت أوّل تعاونية مسرحية مستقلة في الجزائر، وكانت أعماله دافعة لعجلة المسرح، لتتحرّك في فترة عصيبة، فرّ أثناءها العديدون إلى خارج الوطن، حيث استلم إدارة المسرح الوطني الجزائري، وحاول سن وتنظيم مسرحيات شهرية على مدار السنة، وحث في مساره المسرحي على مكافحة الإرهاب والتمسّك بالوطن، كما دعا الجمهور من خلال مسرحياته، إلى رفض أي شكل من أشكال العنف والمضيّ قدما إلى الأمام، لكن هذا العنف سلبه حياته، لتبقى ذكراه الطيبة في قلب كل جزائري. محطات عديدة أثّثت حياة مجوبي، التي أريد لها أن تكون قصيرة زمنيا، ثرية إبداعيّا؛ إذ بدأ نشاطه المسرحي في ستينيات القرن الماضي بعد تكوين بالمعهد البلدي للجزائر، فاحترف التمثيل بفرقة الإذاعة الوطنية من 1963 إلى 1966، ثم بالمسرح الوزطني الجزائري من 1966 إلى 1967، فمؤسّساً لفرقة ”مسرح وثقافة” التابعة للاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية من 1965 إلى 1968، لتتوالى المحطات إلى ممثل ومقتبس بالإذاعة والتلفزة من 1969 إلى 1973. وبمدينة سعيدة أسّس فرقة ”برولت ثقافة” عام 1973، وانتقل إلى المسرح الجهوي لوهران كممثل ومؤلف لمدة سنة، قبل أن يحطّ الرحال بالمسرح الوطني الجزائري كممثل متعدّد الأدوار ومساعد مخرج من 1974 إلى 1989، وهي السنة التي أسّس فيها رفقة الثلاثي بن قطاف، صونيا وشريف عياد، فرقة ”القلعة” التي حلت عام 1992، ليخوض الراحل تجربة مع المسرح الجهوي لباتنة عام 1993، فالمسرح الجهوي لبجاية، ليلقى قدره ذات ثالث عشر فيفري 1994 وهو يشغل منصب مدير عام المسرح الوطني الجزائري. عز الدين مجوبي الذي تحلّ اليوم ذكراه التاسعة عشرة بآلامها وتأمّلاتها، قدّم للمسرح الجزائري أعمالا تُعدّ مرجعيات في عالم الفن الرابع، إذ أخرج التركيب الشعري عن فلسطين ”صمود” عام 1975 للمسرح الوطني الجزائري، ليليه عام 1983 عرض ”قالوا العرب قالوا” كمقتبس ومستشار فني، وأخرج عام 1986 للمسرح الوطني الجزائري مسرحية ”غابوا لفكار”، و«آخر المساجين” لصالح فرقة ”القلعة” عام 1990، وختم رحلته المسرحية ب ”عالم البعوش” عام 1993 للمسرح الجهوي لبجاية. طوال مسيرته الإبداعية حاز مجوبي على العديد من الجوائز والتقديرات، على غرار شهادة الشرف التي منحها إياه رئيس الجمهورية الأسبق الشاذلي بن جديد عام 1987، كما افتكّ جائزة أحسن إخراج بمهرجان المسرح المحترف بالجزائر عام 1986 عن مسرحية ”غابوا لفكار”، وجائزتي أحسن عمل وأحسن إخراج بمهرجان المسرح المحترف بعنابة عام 1993 عن مسرحية ”عالم البعوش”، ناهيك عن حصوله على أحسن أداء رجالي عن مسرحية ”عالم البعوش” بمهرجان قرطاج عام 1994، وجائزة أحسن إخراج بالمهرجان الوطني للمسرح المحترف بباتنة عام 1994 عن ”لحوينة”. من جسّد للمسرح سواء بالتمثيل، الاقتباس أو الإخراج، ”حافلة تسير”، ”غابو الأفكار”، ”عالم البعوش” و«قالوا العرب قالوا” وغيرها من الروائع، استطاع أن يفتكّ الإعجاب والجوائز في المحافل الوطنية والدولية، فمجوبي، حسب من عايشوه، كان فنانا متكاملا تجده أينما وُجد الفن والكلمة والفكرة، لذلك خاض تجربة إعلامية جميلة مع الراحل جمال عمراني؛ حيث نشّطا معاً حصة إذاعية خاصة بالشعر على القناة الإذاعية الثالثة، كما حارب الإرهاب بالكلمة والصورة، وظلّ يزرع الأمل عند الجزائريين البسطاء، إذ كانت له قدرات عجيبة في النقد السياسي البنّاء وفي تسجيل مراحل سياسية مختلفة مرت بها الجزائر دونما إسقاط الإطار الفني اللازم.