لم يجد مايك دارسي، الرئيس التنفيذي لمجموعة تضمّ مؤسّسات إعلامية في بريطانيا والولايات المتحدة غير كلمة ”الشجاعة”، وهو يصف الصحف التي تقدّم محتواها مجانا على الأنترنت، واختياره لهذه الصفة ”الشجاعة” يعكس قناعته في مجموعة يمتلكها إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، بدأت منذ عامين في فرض رسوم على المستخدمين لدخول مواقع صحفها. المحتوى المجاني ليس رهان مايك دارسي، لأنّه حسب تعبيره، وخلال مشاركته في مؤتمر استراتيجيات وسائل الإعلام الرقمية الذي أقيم في لندن هذا الأسبوع ”مخيف بعض الشيء بالنسبة لي”، لأنّه بصفته مديرا في أكبر إمبراطورية إعلامية تسعى إلى كسب المال قبل أي شي آخر، مع ذلك قال هذا الرجل الذي تقلّد عدّة مناصب إعلامية؛ ”المراهنة الكاملة على المحتوى المجاني كما تفعل صحيفة ”الغارديان مثلا، تبدو في غاية الشجاعة، قصد دفع الصحفيين إلى العمل ووضع سيناريو مفتوح لأجل غير مسمى”. إلاّ أنّه لا يخفي قلقه نيابة عن زملائه في ”الغارديان” على رهانهم على المحتوى الرقمي المجاني، لأنهّ يتفهّم خيارهم المهني للحفاظ على علاقة الصحافة بجمهورها، لكنه يبقى بالنسبة له خيارا محفوفا بالمخاطر المالية، ويعرض رؤيته بالقول بأن جهدا ضائعا بذله العديد من مخططي وسائل الإعلام حول الإجابة على أسئلة ضيّقة تؤدي إلى كيفية معرفة تسييل المحتوى الرقمي، الأمر الذي أفقدهم المسار حول تأمين مستقبل مستدام على نطاق واسع. وهو في ذلك يرفع صوت الأرباح عاليا، وفق فلسفة مردوخ حول مستقبل ربحي مضمون للإعلام الرقمي بعد فرض رسوم على القراء، وحتى في المطبوع يرى مايك دارسي بأنّ على الصحيفة ألاّ تكتفي بدور الموزّع، بقدر ما تقوم على صناعة المحتوى، وعبّر عن تفاؤله بمستقبل صحيفتي ”التايمز” و”صنداي تايمز” في طريقهما لتصبحا مربحتين بعد انخفاض الخسائر إلى ثمانية مليون دولار. لكن الأرقام الأخيرة لا تؤكّد هذا التفاؤل بعد أن فقدت صحيفة ”التايمز” أكثر من ثلث قرائها منذ أن فرضت رسوما على دخول موقعها الإلكتروني، وأن عدد الزائرين انخفض بنسبة 87 في المائة منذ فرض الرسوم. إلاّ أنّ دارسي يصرّ على أنّ نهج المحتوى المدفوع الثمن وسيلة معقولة للمضي بالصناعة الإعلامية الرقمية قدما، ويستشهد هنا بصحيفة ”نيويورك تايمز” التي فرضت رسوما على متصفّحي موقعها الإلكتروني، ومع أنّه لا يستطيع ضمان مستقبل المحتوى الرقمي غير المجاني، لكنه لا يخفي تفاؤله الشديد باستراتيجية مردوخ ”مدفوعة الثمن”، ويستشهد بعدد المشتركين بموقع صحيفة ”التايمز” الذي وصل إلى 153 ألف شخص مع نهاية العام الماضي، بينما هناك 207 ألف مشترك بالطبعة الورقية، وفي كلّ الأحوال هذه الأرقام لا تتناسب مع تاريخ الصحيفة البريطانية. أفكار مايك دارسي الجالس في قمة الهرم الإعلامي المتفاعل، قد تسوغ لفلسفة روبرت مردوخ الذي يعتقد أنّ رياح الرقمية لن تبقي خلفها سوى قصاصات ورق متناثرة، لكنّها تمتلك حيّزها بين ناشري الصحف ومحرّريها، لأنّهم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى شرح ما يفعلون، وماذا يفعلون لإقناع الجمهور بالانضمام إلى متن منصاتهم الرقمية مقابل رسوم مالية. لكنّه سيجد صوتا بل أصواتا مقابلة وأكثر هدوءا منه، لا تضع الخيار الربحي في مقدمة نهجها، كما يرى آلن روسبيردجر رئيس تحرير صحيفة ”الغارديان” ”أنّ المستقبل للصحافة الورقية والرقمية جزء منه والأكثر تميّزا هو الذي يفرض نفسه ويوثّق علاقته مع القارئ”، ويشير إلى قيام مردوخ من قبل بتسعير صحفه بمبالغ ضئيلة جدا تصل إلى أقلّ من سعر التكلفة من أجل الاستحواذ على الجمهور، وهو نفسه الذي يفرض اليوم رسوما من أجل دخول القارئ على موقع الصحيفة على الأنترنت، متّهما إياه بتسعير القيّم لمهاجمة خصومه، فيما يتناسى أنه يتعامل مع وسائل إعلام حرة. روسبيردجر يؤكّد على التقاليد الصحفية التي أرساها ”فليت ستريت” في بريطانيا والعالم، وأنّ المجتمع لا يقبل بالتنازل عن اتجاهات قائمة وراسخة من أجل صناعة تجارية، ويرى ”أنّ الخلاف ليس في سطوة الثورة الرقمية على وسائل الإعلام، بل في اختيار المجتمعات لخطابها وتنظيم أنفسها في ديمقراطية جديدة من الأفكار والمعلومات، وتغيير مفاهيم السلطة، إطلاق الإبداع الفردي ومقاومة خنق حرية التعبير”، فإذا أدارت وسائل الإعلام ظهرها للمجتمع حسب رئيس تحرير الغارديان - من أجل أنانية تجارية، والاكتفاء بفكرة ليس هناك ما يمكن أن نتعلّمه، فإنها ستدخل فقط في غياهب النسيان.